حجية الفقهاء:
الدليل الأول:
لقد احتج بعض الفقهاء بعدم جواز ولاية غير المسلم يقول الله تعالى [ ولن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ] الآية (141) من سورة النساء. وبالرجوع إلى كتب التفسير المختلفة قديمها وحديثها نجد أنهم قد انتزعوا هذه الجملة من سياق الآية التي تبحث عن المنافقين وكيدهم وتصف موقفهم من المسلمين في الحرب والقتال ـ ونحن نورد فيما يلي أقوال المفسرين:
1- في ظلال القرآن / سيد قطب مجلد (2) ص 782:
[ الَّذِينَ يَتَرَبْصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مُنَ اللَه قَالُواْ ألَمْ نَكُن مُعَكُمْ وّإِن كَانَ للْكَافرِينَ نَصيبٌ قَالُواْ ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مُنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهَُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ] الآية (141) من سورة النساء.
§ الآية تتحدث عن المنافقين وكيدهم وتظاهرهم بالمودة حين يكون للمسلمين فتح ونعمة.
الآية تتحدث عن الموقعة: [ أَلمْ نَكُن مَّعَكُمْ ] يعنون في الموقعة.
أمر الله المؤمنين بالكف عن المنافقين: [ فَاللّهُ يَحْكُكمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ].
§ الآية وعد من الله قاطع للمؤمنين بالنصر إذا استقر الإيمان في نفوسهم وواقعهم ، فلا يسلّط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال ، وإن غلب المسلمون في بعض المعارك.
§ قد تعني الهزيمة الروح وكلال العزيمة ، فالهزيمة في المعركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً.
§ يشير القرآن إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر . وحين تواجه حقيقة الإيمان المتصلة بالقوة الكبرى حقيقة الكفـر المنعزلة المحدودة فإنها تقهرها ، أما حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ، لأن حقيقة أي شئ أقوى من مظهر أي شئ.
2- زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي ص9 ، 2 ، ج2:
قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة.
قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر ، فإن كان الفتح قالوا ألم نكن معكم فأعطونا من الغنيمة ، وإن كان للكافرين نصيب ، أي دولة على المسلمين ، قالوا للكفار ألم نستحوذ عليكم (بالمعونة والنصرة) ونمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم ، فاعرفوا.
3- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير/ للرازي ، مجلد 5 ، ص 495:
[ ] الآية (141) من سورة النساء.
فيه قولان:
القول الأول: وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ، أن المراد به في القيامة ، بدليل أنه عطف على قوله [ فَاللَهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ].
القول الثاني: أن المراد به في الدنيا ، ولكنه مخصوص بالحجة ، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل ، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل.
4- تفسير المنار للإمام محمد عبده ، الجزء 5 ، ص 466:
( كلمة سبيل هنا نكرة في سياق النفيس تفيد العموم ، وقد أخطأ من خصها بالحجة ، وقال بعضهم: إن هذا خاص بالآخرة ، والصواب أنه عام ، فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقاً ، وما غلب الكافرون المسلمين في الحروب والسياسة وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون ، بل من حيث إِنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه ، وأحكم عملاً بها ، والمسلمون تركوا ذلك كما علمت ، فيعتبر بذلك المعتبرون).
وواضح مما سبق اتفاق المفسرين على أن الآية تتحدث عن المنافقين في ميدان الحرب والسياسة ، ولا علاقة لها بولاية القضاء.
الدليل الثاني: ويحتج بعض الفقهاء بقول الله تعالى : [ لاّ يَتْخِذِ الْمُؤْمِنِونَ الْكَافرِينَ أَولْيَاء مِن دُوْنِ الْمؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَئْ إِلأَ أَن تَتَقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ] آل عمران الآية (28).
وقد جاء في تفسير هذه الآية:
1- تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ، مجلد 2 ، ص 139.
نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عبادة : يا نبي الله إِنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فنزلت.
وقيل نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
[ إِلأَ أن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ] يعني إِلا أن تخافـوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم.
2- جامع البيان فـي تأويل القرآن – الإمام ابن جرير الطبري ، المجلد الرابع ، ص 374 ، طبعـة دار الفكر:
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالي ذكره نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أحل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أن من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين ، وإن الله ورسوله منه بريئان ).
3- الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي ، المجلد الثاني ، ص 57.
[ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَئٍْ ] أي ( ليس من حزب الله ولا من أوليائه في شئ ) . وواضح مما سبق أن الولاية في كل هذه الآيات تعني النصرة في الحرب ، وأن المؤمـن ممنوعُُ من اتخاذ الكافر نصيراً وحليفاً بدلاً عن المؤمنين.
ثانياً : العدالة:
وهي شرط في الشهادة وقد جعلوها شرطاً في القضاء أيضاً ، فقالوا من لا تجوز شهادته لا تجوز ولايته.
العدالة عرفها الفيومي صاحب كتاب المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي ج 2 ، 606 ( الطبعة الثالثة عام 1912م) بقوله:
( العدالة صيغة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة ظاهراً ) ثم قال : ( فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهراً لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر ، فيكون الظاهر الإخلال . ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك ، فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قدح وإلا فلا).
والعدالة في قول أبي حنيفة أن يكون ظاهر الإسلام ، وألا تعلم عنه جرحه
يقول ابن رشد: " هي أن يكون المسلم ملتزماً لواجبات الشرع ومستحباته ، مجتنباً للمحرمات والمكروهات " ([7]).
وقال الماوردي ([8]) : " العدالة أن يكون صادق اللهجة ، ظاهر الأمانة ، عفيفاً عن المحارم ، متوخياً المآثم ، بعيداً عن الريب ، مأموناً في الرضا والغضب ، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه ، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصبح ولايته ، وإن انخرم منها وصف منع الشهادة والولاية ، ولم يُسْمَع له قول ، ولم يُنَفَّذ له حكم ".
والعدالة شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة ، فلا يجوز تولية الفاسق ولا مرفوض الشهادة لسبب إقامة حد القذف عليه ([9]).
وللرد على هؤلاء الفقهاء يمكن أن يقال:
1- إن شرط العدالة لم يرد به قرآن ولا حديث ، وإنه شرط كمال استنبطه الفقهاء من سياسات الخلفاء الراشدين.
2- إن إنكار عدالة غير المسلم على الإطلاق أمر تأثر فيه الفقهاء بالظروف التي كانت سائدة وقتذاك في الدولة الإسلامية ، والمخاطر التي كانت تحيط بها ، ومكايد أهل الكتاب في الداخل . فنحن لا نستطيع الآن أن نعمم الحكم على جميع أهل الكتاب والنصارى الذين يشاركوننا العيش كمواطنين في الدولة ، وعلينا أن نعدل منهم من اتصف بالأمانة والاستقامة.
3- إن الله سبحانه وتعالى شهد لبعض أهل الكتاب – لا سيما النصارى – بالأمانة ، وذلك في قوله تعالى : [ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ] آل عمران ، الآية (75).
4- شهادة الواقع: إن الواقع يثبت أن من بين النصارى الذين عرفناهم المستقيم في سلوكه ، العفّ في لسانه ، الأمين على ما يوكل إليه من أمانات ويُعْهَد إليه من مسئوليات . ونورد فيما يلي أقوال المفسرين في هذه الآية:
1- الإمام الطبري:
وهذا الخبر من الله عز وجل أن من أهل الكتاب ( وهم اليهود من بني إسرائيل ) أهل أمانة ، يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحيل.
2- ابن العربي (أحكام القرآن):
قيل نزلت في نصارى نجران ، وقيل نزلت في قوم من اليهود.
3- تفسير القرطبي:
ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافاً لمن ذهب إلى ذلك ، لأن فساق المسلمين فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ، ولا يكونون بذلك عدولاً . فطريق العدالة والشهادة ليس يجزي فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة . ألا ترى قولهم [ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمُيينَ سَبِيلَّ ] فكيف يعدّل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه ، ولو كان ذلك كافياً في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
4- تفسير غرائب القرآن – النيسابوري ، مجلد 2 ، ص 12:
قيل إنَّ الذين يؤدون الأمانة النصارى ، والذين لا يؤدونها اليهود.
5- في ظلال القرآن ، مجلد 1 ، ص 417 ، آل عمران الآية 75:
[ وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ].
إنها خطة الإنصاف ، وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك ، والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال . ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم ، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين ، كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم ، حتى في معرض الجدل والمواجهة . فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب أناساً أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة ومغرية:
[ وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ].
ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين ، الذين لا يردون حقاً – وإن صَغُر – إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة ، ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم بالكذب على الله عن علم وقصد: [ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدَّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْه قَائِمَّا ذَلِك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمَّيَّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُم يَعْلَمُونَ ] آل عمران الآية (75).
وهذه بالذات صفة يهود – لأنهم كانوا يسمون العرب الأميين ، ويعنون كل من سوى اليهود . فلا حرج على اليهود في أكل أموالهم وغشَهم وخداعهم والتدليس عليهم واستغلالهم.
6- الأساس في التفسير – سعيد حوّي – المجلد الثاني ، ص 504 :
يخبر تعالى أن من أهل الكتاب الأمناء ، ومنهم الخونة ، فالأمينون منهم من ائتمنه بمال كثير أدّاه ، ومنهم من إن تأمنه بالمال القليل لا يؤده إِليك إِلا إِذا كنت قائماً على حقك بالمطالبة والملازمة والإلحاح لتستخلص حقك ، وقادراً على استخلاصه . وسبب خيانة هؤلاء تصورهم أنه ليس عليهم حرج في أكل أموال غير أبناء دينهم ، إذ يزعمون أن الله أحلّها لهم ولو كانت أمانات ، وهذا كذب على الله واختلاق ، فإن الله حرّم عليهم أكل الأموال إِلا بحقها.
7- تفسير الشعراوي ، مجلد 3 ، ص 1552:
إنه مطلق الإنصاف الإلهي ، فإِذا كان الحق قد كشف للرسول بعضاً من مكر أهل الكتاب ، فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم أهل سوء ، لا ، بل منهم من يتميّز بالأمانة . وهذا القول إِنما يؤكّد إِنصاف الإِله المنصف العدل.
قال بعض المفسرين: إِن القرآن يقصـد هنا من أهل الكتاب النصارى ، لأن منهم أصحاب ضمير حي . وفي هذا التفسير إِنصاف للنصارى ، فصفة الخير لهم لا ينكرها الله بل يثبتها في قرآنه الذي يتلى إِلى يوم الدين.