الثلاثاء, 19 آذار/مارس 2024
Blue Red Green

  • أخبار سريعة
أخبار قانونية: وفاة رئيس القضاء السوداني مولانا حيدر احمد دفع الله - السبت, 24 تشرين2/نوفمبر 2018 18:45
الرئيسية أقسام قانونية متنوعة قضية سودانية قضية سودانية شهيرة أسماء محمود محمد طه وعبداللطيف عمر ضد حكومة السودان

أسماء محمود محمد طه وعبداللطيف عمر ضد حكومة السودان

المحكمة العليا

الدائرة الدستورية

القضاة :

سعادة السيد / محمد ميرغنى مبروك        رئيس القضاء          رئيساً

سعادة السيد/ هنرى رياض سكلا            قاضى المحكمة العليا    عضواً

سعادة السيد / فاروق أحمد إبراهيم          قاضى المحكمة العليا    عضواً

سعادة السيد / حنفى إبراهيم أحمد           قاضى المحكمة العليا    عضواً

سعادة السيد/ زكى عبد الرحمن              قاضى المحكمة العليا    عضواً

سعادة السيد / محمد حمزة الصديق          قاضى المحكمة العليا    عضواً

سعادة السيد / محمد عبد الرحيم             قاضى المحكمة العليا    عضواً

أسماء محمود محمد طه ، عبد اللطيف عمر حسب الله -المدعيان-

/ ضد/

حكومة جمهورية السودان                              - المدعى عليها

م ع / ق د/ 2/ 1406هـ

المبادئ:

 إجراءات جنائية – سلطة رئيس الجمهورية في تأييد أحكام الإعدام – حدودها.

  إجراءات جنائية – سلطة المحكمة العليا في تأييد – عدم قابليتها للمصادرة – خضوع أحكام محكمة الاستئناف الجنائية لها – المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م.

إجراءات جنائية – سلطة المحكمة العليا في التأييد – أثرها القانوني.

إجراءات جنائية – سلطة المحكمة العليا في تأييد الأحكام – أثر سلطة محكمة الاستئناف الجنائية مادة 18 (ز) من القرار الجمهوري 35 لسنة 1405هـ على هذه السلطة.

إجراءات جنائية – توجيه تهمة جديدة في مرحلة الاستئناف – ضرورة سماع المحكوم عليه – المادة 242 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983.

إجراءات جنائية – توجيه تهمة جديدة في مرحلة الاستئناف – مخالفة الإجراء للتقاليد القضائية وقانون الإجراءات الجنائية.

 

قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983م – لا يعطى المحكمة سلطة في التشريع المادة 3 منه.

  الدستور الانتقالي لسنة 1985 – دعوى الحق الدستورى – المصلحة المباشرة – معيارها.

  إجراءات مدنية – الحق الدستورى – طبيعته – المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.

  إجراءات مدنية – دعوى حماية الحق الدستوري – دستورية القوانين – الفرق بينهما – المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.

إجراءات مدنية– الحق الدستوري– معناه– المادة 325من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.

  الدستور الانتقالي لسنة 1985م– حق اقامة الدعوى الدستورية – مفهومه على ضوء المادة 32 منه مقروءة مع المادة 325 من قانون الإجراءات – المدنية لسنة 1983م – المصلحة المباشرة في الحق تكفى للقيام مقام صاحب الحق الأصلى.

الدستور الانتقالي لسنة 1985م – حق التقاضى – ارتباطه بالحقوق الموضوعية عدم تقييده بما يحضر الصفة في صاحبها دون غيره – المادة 26 منه.

 إجراءات مدنية – الحق الدستوري – المنصوص عليه في المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 – المشرع لا يقيد سلطة المحكمة في النفاذ إلى حقوق المواطنين الموضوعية – ضرورة مراعاة المادة 125 من الدستور الانتقالي لسنة 1985م.

1-    لما كان من الجائز قانوناً لرئيس الجمهورية (الرئيس السابق) أن يصدر قراره في تأييد حكم الإعدام دون إبداء أسباب ، فإن ما صدر عنه عند التصديق على الأحكام من استرسال لا يعدو أن يكون تزايداً لا أثر له ، ويكفى لوصفه أن نقرر أنه مجرد من أي سند في القوانين والأعراف. وفيه تغول على السلطات القضائية.

2-    السلطات المقررة للمحكمة العليا ليست عرضة للمصادرة بتشريع فرعى أو قرار تنفيذى وهو ما لا يجد سنداً لا في نص صريح ولا في المبادئ العامة للشرعية ، وطالما ظلت المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية نافذة فإنه كان ينبغى عرض الأحكام الصادرة الإعدام على المحكمة العليا سواء أن قبل تأييدها في محكمة الاستئناف الجنائية أو بعد ذلك.

3-    استقلال محكمة الاستئناف (الجنائية) بسلطة التقييد يفوت على المحكمة العليا ليس فقط حصر الإدانة في الاتهامات الموجهة بموجب قانون العقوبات (أو قانون أمن الدولة دون غيرها) وإنما في أن تقصر العقوبة على ما يتناسب وفعل المحكوم عليه وما يترتب عليه من آثار.
4-    ليس من شأن السلطات الممنوحة لمحكمة الاستئناف (الجنائية) فيما يتعلق بتأييد الأحكام أن تسلب محكمة أعلى مقاماً كالمحكمة العليا من صلاحيتها التي يقررها قانون نافذ لا يقل درجة عن القانون المانح للسلطة ، بل ومن الدستور نفسه وهو مصدر القوانين والسلطات.

5-    سماع المتهم قبل إدانته وأن كان يرد في صيغة سلطة تقديرية في المادة 242 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م إلا أنها تأخذ شكل الإلزام عندما يكون ذلك السماع ضرورياً.

مهما كان من أمر النصوص القانونية فإن سماع المتهم قبل إدانته مبدأ أزلى لم يعد في حاجة إلى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الإنسانية على اختلاف عناصرها وأديانها باعتبارها قاعدة مقدسة من قواعد العدالة الطبيعية.

6-    إضافة تهمة جديدة لم يتم توجيهها في مرحلة المحاكمة هو اشتطاط من المحكمة لا يكون قد وقف عند حد اغفال التقاليد القضائية التي سادت هذه البلاد عبر السنين الطويلة فحسب ، وإنما يكون قد امتد إلى مخالفة النصوص الصريحة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يحكم إجراءات التأييد المادة 238 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م.
7-    المادة (3) من قانون أصول الأحكام المعدلة لم يكن من شأنها اضفاء سلطة ترقى في طبيعتها إلى سلطة في التشريع لا تختص بها المحاكم أصلاً.

8-    القرار في طبيعة المصلحة المباشرة المطلوبة يعتمد بالضرورة على اعتبارات دقيقة تختلف من حالة لأخرى ولا يتسنى التقرير فيها بمعزل عن ظروف كل مصلحة مدعى بها على حدة.
9-    المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية سنة 1983 لا تتضمن من إشارة إلى أن الحق الدستوري ذو طبيعة شخصية – لأن القول بذلك ينتهى إلى نتائج غير مستساغة منها أولاً أن تكون القواعد الإجرائية مصدراً لحقوق موضوعية ومنها ثانياً أن يكون الحق الدستوري عرضة للضياع لمجرد اهداره حياة صاحب الحق بنفسه ، مما يترتب عليه أن يكون من الأصلح لمن يود أن ينتهك حقاً ألا يكتفى بذلك الانتهاك إنما يوالى سلوكه غير المشروع ذلك بالاعتداء على حياة صاحب الحق واغتياله وبذلك يضفى على أفعاله شرعية ويبقى في مأمن إلى الابد من أية محاولة في إثارة الأمر من قريب أو بعيداً.

10-    يكفى الضرر ، مادياً كان أو وخلافه لانقضاء المصلحة التي تتطلبها اقامة دعوى عدم دستورية القانون أما دعوى حماية الحق الدستوري فهي في حاجة بالضرورة إلى قيام حق دستوري يحتمل بطبيعته أن يكون محلاً لحماية قضائية.

11-    المركز القانوني السليم الذى تتطلبه إقامة دعوى حماية الحق الدستوري – لابد أن يتعدى المصلحة المادية البحتة التي تشكل أسس التقاضى في الدعاوى العادية إلى ارتباط وثيق بحق مقرر دستورياً تكون حمايته غاية في حد ذاتها بصرف النظر عما يمكن أن ينشأ عن ذلك الحق من مصلحة مادية أو  يترتب على اهداره من ضرر أياً كان طبيعته.
12-    ما يتلافى التضييق الجائز من تفسير المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية والتوسع غير المعقول الذي يرد في المادة 32 من الدستور الانتقالي سنة 1985 هو أن صفة إقامة الدعوى إنما تتحقق بمصلحة جدية وحقيقية في موضوع الدعوى ولا يلزم لاثبات ذلك أن يكون المدعى هو صاحب الحق الدستوري نفسه ، بل يكفى أن تكون له مصلحة مباشرة في ذلك الحق تبيح له عدالة أن يدعى لنفسه حقاً في أن يقوم مقام صاحب الحق الأصلي.
13-    القضاء ملاذ للجميع وحق الالتجاء إليه حق مطلق فيما تنص عليه المادة 26 من الدستور الانتقالي سنة 1985 أما حق الدعوى فهو وأن كان مرتبطاً بالحقوق الموضوعية إلا أنه لا يتقيد بشكل محدد من الرابطة بتلك الحقوق بما يحصر الصفة في صاحبها دون غيره وهذا يتسع حق التقاضى في حماية الحقوق الدستورية بما يشمل أي شخص دون تحديد ولكن المادة 32 لم تقصد أن يرد الحق مطلقاً وإنما يرتبط بالحقوق الموضوعية بحيث لا تتوفر الصفة في إقامة الدعوى إلا لمن كانت له مصلحة قانونية في تلك الحقوق الموضوعية أو  في حمايتها.
14-    إذا كان من المحتمل أن نفسر قصد المشرع في – نص المادة 325 – إجراءات بأن الحق الدستوري المراد حمايته ذو طبيعة شخصية وهذا ما يتنافى مع المألوف والمرعى من الإجراءات السليمة في التشريع كما يتنافى مع مبادئ العدالة وحكم القانون وهو افتراض غير جائز فإن الدائرة الدستورية لن تتردد في الالتفات عنه لأنه ما من تشريع إجرائى وهو يهدف إلى تنظيم الوسائل التي تحقق بها كفالة الحقوق الموضوعية ولذا ينبغى أن ينأى عن القيود ينبغى أن يحول بين المحكمة والنفاذ إلى الحقوق الموضوعية للمواطنين إلا ما كان منه صريحاً وأمراً يرقى تجاوزه إلى تجاوز الحدود الدستورية المقررة للمحكمة بموجب المادة 125 من الدستور الانتقالي سنة 1985.

المحامون:

1- هيئة الإدعاء : الاستاذ طه إبراهيم. الاستاذ عابدين إسماعيل.

عن المدعين :

   الأستاذ عبد الله الحسن

   الأستاذ محمود حاج الشيخ

   الأستاذ جريس أسعد جريس

   الاستاذ بيتر نيوت كوك

2- هيئة الدفاع : النائب العام (شارلس كير دينق) عن المدعى عليها.

رأى مخالف:


1-   لكى ينجح المدعى في دعواه يجب عليه أن يبين في عريضته أن له حقاً أو مركزاً قانونياً أو مصلحة يحميها القانون أو يستأثر بها دون غيره من الناس ، وأنه تم الاعتداء على ذلك من جانب الغير دون مبرر قانوني أو عذر شرعي وأن لرافع الدعوى صفة لطلب الحماية القضائية أي إصدار حكم برفع الظلم عنه في مواجهة شخص أو أشخاص آخرين هم بالضرورة طرف في الدعوى أو الخصومة القضائية.

2-   الحكم يعتبر عملاً قانونياً يخضع لمقتضيات معينة يجب أن تسبقه أعمال إجرائية يلزم أن تكون صحيحة فإن حدث أن شاب الحكم خطأ في الإجراء فإن هذا الخطأ يمكن أن يؤدى إلى بطلان الحكم. والحكم كعمل إجرائي في خصومة قضائية فإنه يخضع عادة للإبطال بموجب الطرق التي يحددها القانون ولا يجوز الطعن بطريق مباشر أو غير مباشر بمثل محاولة اللجوء إلى رفع دعوى لحماية حق دستوري.

3-   عريضة دعوى حماية الحق الدستوري التي تقوم على الخطأ في تطبيق القانون الموضوعي أو الخطأ في إجراءات التأييد أو التنفيذ أو جهل القضاة والكيد وقصد الانتقام لا تشتمل على مسألة صالحة للفصل فيها أمام المحكمة العليا في معنى المواد 327 (ب) و 38 (2) (ب) و 325 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م مما يتعين معه عدم قبولها ولمقدمى الطلب تحريك الإجراءات الجنائية ضد من توجه إليهم الاتهام أمام محكمة أول درجة أو رفع دعوى مبتدأة.

الحكـــم:

أنه وبتاريخ 25 فبراير 1986م تقدمت هيئة الادعاء المكونة من الأساتذة طه إبراهيم ، عابدين إسماعيل ، عبد الله الحسن ، محمود حاج الشيخ ، جريس أسعد جريس ، و د. بيتر نيوت كوك المحامين بعريضة طعن دستوري نيابة عن المدعية الأولي تطالب فيها إعلان بطلان إجراءات محاكمة المواطن محمود محمد طه (والد المدعية) تلك الإجراءات التي انتهت بالحكم عليه بالإعدام وتنفيذه ولأنها أدت إلى إهدار حقوقه الدستورية المنصوص عليها في الدستور الدائم (الملغى) لسنة 1973م والدستور المؤقت لسنة 1985م واللذين أكدا على تلك الحقوق استناداً إلى ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولقد تضمنت صحيفة الطعن في صدرها سرداً كاملاً للأحداث والملابسات التي سبقت إجراءات القبض والمحاكمة وذلك من واقع بعض المستندات المرفقة بأوراق الدعوى لتدلل هيئة الإدعاء على أن الرئيس السابق وآخرين كانوا قد بيتوا النية على اغتيال والد المدعية الأولي وهي أحداث يتعلق جانب منها بالفكر الإنساني بينما يتعلق الجانب الآخر بمسائل سياسية بحتة ومن ثم لا نرى لأغراض الفصل في هذا الطعن ما يستوجب التطرق إليها على وجه مفصل إذ أن الطعن الدستوري ينصب في مجمله على مسألتين أساسيتين أولهما عدم صحة قرار تعيين قضاة محكمتى الموضوع والاستئناف وإغفال سلطة المحكمة العليا في تأييد الحكم وبالتالي بطلان إجراءات المحاكمة برمتها ، وثانيهما مدى انتقاص تلك الإجراءات مهما كان وجه الرأي في المسألة الأولي لحقوق المتهم في أن ينال محاكمة عادلة وفق إجراءات القانون.

وبرغم التداخل الواضح في صحيفة الطعن بين مسألتى مخالفة القانون والانتقاص من حقوق المتهم مما لم يمكن هذه المحكمة من الفصل بينهما على وجه قاطع ومحدد ، فقد استطاعت أن تشق طريقها لتستخلص بنفسها الحجج التي أثارتها هيئة الإدعاء لإثبات مدى مخالفة إجراءات المحاكمة لنصوص الدستور وهي تتلخص في الآتي:-

1-   أن تعيين قاضى الموضوع كان باطلاً لعدم استيفائه لشروط المواد 20 إلى 29 شاملة من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ بما يترتب عليه بطلان الحكم الصادر منه وذلك أن المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وأن كانت تجيز لرئيس الجمهورية السابق سلطة تكوين محاكم جنائية ، إلا أنها حجبت عنه سلطة تعيين القضاة الجالسين بها.

2-   أن قاضى الموضوع وأن كان قد وضع المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 كتهمة ، إلا أنه لم يوجه صراحة تهمة الردة إلى المتهمين أمامه وإنما استخلصها انصياعاً لرغبة الرئيس السابق وذلك بأنه رغم استناده إلى نصوص قانون العقوبات وقانون أمن الدولة ، فقد منح المتهمين مهلة للتوبة إلى ما قبل تنفيذ الحكم.

3-   أن قاضى الموضوع قد نصب من نفسه مشرعاً حينما أشار إلى تهمة تحت المادة (3) من قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 رغم أن ذلك القانون ليس بقانون عقابى ويخلو من أية نصوص تجرم أفعالاً أو تضع لها عقوبات.

4-   أنه قد تم العثور على مذكرة مدسوسة بالمحضر صاغها شخص مجهول ليستعين بها قاضى الموضوع في إصدار حكمه مما يتبين منه أن هنالك أكثر من جهة كانت تسعى لصياغة حكم المحكمة على نمط معين وكتدبير إجرامي للوصول إلى إعدام المتهمين.

   5-  أن تكوين محكمة الاستئناف الجنائية بواسطة رئيس الجمهورية السابق كان إجراء غير قانوني وباطلاً إذ قصرت المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ سلطاته في تكوين المحاكم الجنائية دون محكمة الاستئناف التي تستمد صحة تكوينها من المادة 18 من ذلك القانون.

6-   أن تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية من ثلاثة قضاة كان يتعارض وصريح المادة 11(هـ) من قانون الهيئة القضائية قاضى فرد.

7-   أنه يترتب على تكوين وتشكيل محكمة الاستئناف على النحو السالف بيانه بطلان الحكم الصادر منها.

8-   أن محكمة الاستئناف التي كونها رئيس الجمهورية السابق وعين قضاتها بقرار جمهوري لم تكن مختصة بسلطة تأييد أحكام الإعدام وإنما كان الاختصاص بذلك ينعقد للمحكمة العليا وحدها عملاً بنص المادة (234) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م وعليه فإن تأييد رئيس الجمهورية لحكمها كان باطلاً حيث لا يرقى ذلك القرار إلى مرتبة التشريع من جانب كما وليست له قوة إلغاء سلطات المحكمة العليا من جانب آخر وبذلك فإن ما أسبغه من اختصاص على محكمة الاستئناف لا يجرد النصوص الواردة في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية لسنة 1983 من قوة الزاميتها أو يحول دون وجوب تطبيقها.

9-   إن تنفيذ حكم الإعدام قبل تأييده من جانب المحكمة العليا يتطابق وجريمة القتل العمد لما يشكله ذلك من إهدار واضح وصريح لنص المادة (246) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983.

10-    أن تنفيذ حكم الإعدام على والد المدعية الأولى ، رغم تجاوز عمره للسبعين عاماً ، كان فعلاً مخالفاً لنص المادة (247) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983 وأنه لا مجال للتجاوز عن الإلتزام بتطبيق هذا النص بحجة الاستناد إلى قانوني أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 حيث أنه نص صريح لا يحتمل أي تفسير مغاير أو تأويل.

11-    أنه وبالرغم من أن قانون العقوبات لسنة 1983م يتضمن في نصوصه ما يسمى بجريمة الردة وهي جريمة إن صحت لم توجهها محكمة الموضوع إلى المواطن محمود محمد طه وإنما استحدثتها محكمة الاستئناف بالاستناد أولاً إلى قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 ، وثانياً إلى أقوال المتهم الأول في يومية التحري وأفكاره المعروفة وإلى حكم غيابي صدر ضده عام 1968 من محكمة شرعية غير مختصة باصداره وإلى أقوال من أسمتهم محكمة الاستئناف بعلماء الإسلام في السودان وغيره من البلاد العربية ، وكان على محكمة الاستئناف في هذه الحالة أما أن تعيد الأوراق إلى محكمة الموضوع لإعادة المحاكمة في ضوء هذه التهمة أو أن تمارس بنفسها إجراءات إعادة المحاكمة.

12-    أنه وبفرض أن الحكم الغيابي الصادر من المحكمة الشرعية في 1968 كان صحيحاً ، فإن محاكمة المواطن محمود محمد طه للمرة الثانية تشكل مخالفة صريحة لنص المادة 218 (1) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983 والتي لا تجوز محاكمة المتهم للمرة الثانية عن جريمة أدين فيها أو برئ منها ، كما وأن ذلك ينطوي على إهدار كامل لنص المادة (71) من دستور عام 1983 الذي كان سارياً وقتها وهي المادة التي لا تجيز محاكمة شخص مرتين عن فعل جنائي واحد.

13-    أن جميع الأوامر التي أصدرتها محكمة الاستئناف كعدم الصلاة على جثمان المواطن محمود محمد طه وعدم دفنه بمقابر المسلمين ومصادرة كل كتبه ومطبوعاته واعتبار أمواله فيئاً للمسلمين. بحيث صودر منزله لصالح الدولة كلها تنطوى على عقوبات ليس لها مكان في قانون العقوبات كما وأنها تتعارض مع حقوقه الشرعية.

14-    أن محاكمة المواطن محمود محمد طه بجريمة سميت بجريمة الردة تعد انتهاكاً لحق المتهم الدستوري المكفول له بموجب المادة (70) من دستور عام 1983 والتي تنص على عدم جواز معاقبة أي شخص عن جريمة ما لم يكن هنالك قانون يعاقب عليها وقت ارتكابها ، وهو وحق أكدته المادة (7) من الدستور الانتقالي لسنة 1985.

15-    أن محكمة الاستئناف بقيامها بدور الاتهام تكون قد فقدت حيدتها ونزاهتها واستقلاليتها مهدرة بذلك أحكام المادتين 61 و 185 من دستور عام 1973.

16-    أن رئيس الجمهورية السابق قد نصب نفسه كجزء من السلطة القضائية وأجرى محاكمة جديدة للمواطن محمود محمد طه وذلك لما اشتمل عليه بيانه الصادر بتأييد الحكم من وقائع تشير إلى أنه كان يمارس سلطات قضائية وليس عملاً من أعمال السيادة ، إذ نص البيان صراحة على أن قرار التأييد قد بنى بعد دراسة لمحضر القضية وبيناتها ومستنداتها مستعيناًَ بالله وكتب الفقه والقانون وهو ما يشكل تغولاً صارخاً على اختصاصات  السلطة القضائية والتي قرر لها الدستور استقلالاً كاملاً عن بقية السلطات.

17-    أن محكمة الموضوع رغم عدم إشارتها في الحكم الابتدائي إلى أية مستندات مرفقة بمحضر الدعوى الجنائية إلا أنه يتضح من بيان رئيس الجمهورية السابق أن محكمة الاستئناف قد قامت بدس مستندات بذلك المحضر لم تكن معروضة أمام محكمة الموضوع مما يشكل تزويراً للمحضر.

18-    أنه لا سند في أي قانون ساري المفعول لانعقاد جلسة 19/1/1985 والتي تلت إجراءات الاستتابة وأن قانون العقوبات أو أي قانون آخر لا يتضمن العقوبات والأوامر والأحكام التي أصدرتها محكمة الموضوع في تلك الجلسة.

19-    أن ما كان يقوم به المواطن محمود محمد طه من نشاط لم يكن إلا ممارسة لحقه الدستوري في التعبير عن عقيدته وفكره ورأيه بالطرق السلمية دون أن يشهر سلاحاً في وجه أحد أو يقهر إنساناً على قبول عقيدته وأن محاكمته على ذلك النشاط يشكل إهداراً لأهم حقوقه الأساسية والدستورية ومن ثم تكون محاكمته مع غيره من المتهمين باطلة وغير دستورية لمخالفتها لأحكام المادتين 47 و 48 من دستور عام 1973 والتي تكفل الأولي منها للمواطن حرية العقيدة والتعبير وأداء الشعائر الدينية دون إخلال بالنظام العام أو الآداب في حين تكفل الثانية حرية الرأي والحق في التعبير عنه ونشره بالكتابة والخطابة. وتقول هيئة الإدعاء بأن الدستور الانتقالي لسنة 1985 قد تبنى الحقوق الواردة في هاتين المادتين وذلك بالنص عليهما في المادتين (18) و (19) منه.

 لكل ما تقدم ذكره من حجج وأسانيد ترى هيئة الإدعاء أن والد المدعية الاولي قد نال محاكمة جائرة وعلى خلاف متطلبات القانون وذلك لأسباب أساسية وهي بطلان قرار تعيين قضاة محكمة الموضوع والاستئناف وعدم صحة تشكيل محكمة الاستئناف وانفرادها بسلطة التأييد ولخلو القانون العقابي مما يسمى بجريمة الردة ولانتفاء أي مسوغ قانوني لتقديم والد المدعية للمحكمة بتهمة التعبير عن الرأي فضلاً عن إغفال محكمتى أدنى درجة لكل ضمانات التقاضى مما يرقى إلى مرتبة الإهدار الكامل للحقوق الدستورية التي كفلتها المادة (64) من دستور عام 1973.

وهذا وبجانب الطلبات التي حوتها صحيفة الدعوى فقد طلبت هيئة الإدعاء من المحكمة أن تأذن لها بالاحتفاظ للمدعية بحقها في المقاضاة بأية حقوق أخرى قد تنشأ لها في حالة الحكم لصالحها.

سودان 29:

في 9/3/1986 قررت هذه الدائرة أن العريضة المقدمة لا تستوفى متطلبات المادة (73) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 ، وبناء على ذلك قضت بأن يتم تقديم عريضة أفضل.

استجابت هيئة الادعاء لذلك القرار وأودعت عريضة بديلة في 16/3/86 اتصفت بايجاز لما ورد في العريضة الأولي مع إضافة المدعى الثاني لها. وقد صرحت المحكمة هذه العريضة في جلسة 18/3/1986 كما استجابت لطلب المدعيين للاحتفاظ لهما بحق المقاضاة بأي حقوق لم تشتمل عليها عرضة الدعوى وذلك طبقاً لما تسمح به المادة 31 (3) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983.

  تم إعلان النائب العام بصورة من العريضة المعدلة وفي جلسة 17/4/1986 ظهر ممثل النائب العام وتقدم برد شفهى على عريضة المدعى مفاده أن النائب العام يقر بأن المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد بإجراءات القانون ويرى أنها إجهاض كامل للعدالة والقانون ولذلك فإنه لا يرغب في الدفاع عن تلك المحاكمة.

طلبت المحكمة من ممثل النائب العام تقديم رده كتابة وحددت جلسة 20/4/1986 لايداع ذلك الرد وقبل نهاية الجلسة تم ايداعه بتوقيع النائب العام ، وجاء على النحو التالي :

1-    نعترف بأن المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد بإجراءات القانون.

2-    أن المحاكمة إجهاض كامل لعدالة القانون.

3-    لا نرغب في الدفاع إطلاقاً عن تلك المحاكمة.

وبعد فحصها لرد النائب العام والتداول حول مضمونه ، أصدرت المحكمة قراراً وصفت فيه رد النائب العام المشار إليه بأنه كان مقتضباً وعاماً وعلى خلاف مقتضيات المادة 74 (أ) (ب) التي توجب أن تشتمل مذكرة الدفاع على إقرار أو انكار صريح لكل واقعة اشتملت عليها عريضة الدعوى. وعليه أمرت المحكمة بأن يقدم النائب العام رده وفقاً لذلك وحددت جلسة 24/4/1986 لإيداع رد جديد.

بتاريخ 18/4/1986 عقبت هيئة الإدعاء على مذكرة الدفاع المقدمة من النائب العام على أساس أن المحاكمة الجنائية لم تكن عادلة وأنها تشتمل على إجهاض كامل للعدالة والقانون ، وأنه ما دام أن النائب العام قد أقر بتلك الوقائع فهل تلتمس إصدار حكم اعترافي بكل طلبات المدعيين.

في جلسة 24/4/1986 تقدم النائب العام بتعقيب على الأمر الصادر من هذه المحكمة والذي قضى بضرورة الالتزام بنص المادة 74 (أ) (ب) اعترض فيه على شكل عريضة الدعوى لما احتوته من فقرات مبهمة تجعل من غير المتيسر الرد عليها بالإقرار أو النفى وطلب قبول الدفاع المقدم من جانبه على أساس أنه اعترف بجوهر الدعوى وليس ثمة اعتراض لديه على الحكم للمدعيين بطلباتهم ما عدا الرسوم والأتعاب ، وعلى سبيل الاحتياط ، طلب إما إلزام المدعيين بتقديم عريضة تتضمن ادعاءات موجزة وواضحة أو إمهاله شهر كامل لدراسة العريضة كما هي للرد عليها تفصيلياً.

في ردها على ما أثاره النائب العام في تلك المذكرة ذكرت هيئة الإدعاء بأن مذكرة الدفاع الأولي التي تقدم بها النائب العام قد تضمنت إقراراً صريحاً في جوهرها وأن ما لم ينكر صراحة يعتبر قانوناً في حكم المقر به وأن نعى النائب العام على عريضة الدعوى المقدمة بمجانبته للشكل المقرر يتعارض مع إقراره الصريح بما ورد فيها حرفياً ، كما يغفل طبيعة الدعوى التى لا تحتمل ادعاءات وقائعية بحتة بل تستلزم إبراز الأسانيد القانونية والدستورية التي تقوم عليها. وبناء على ذلك طلب هيئة الادعاء الحكم لموكليها بطلباتهما الواردة في عريضة الدعوى، فيما عدا الرسوم والأتعاب ، استناداً إلى قاعدتى الإقرار والتراضى.

بتاريخ 8/5/1986 أصدرت المحكمة قراراً يقضى برفض كلاً من مذكرتى الدفاع وتعقيب هيئة الادعاء على أساس أنه ما كان يجوز للنائب العام أن يعقب على قرارها بوجوب تقديم دفاع جديد ، بل كان من واجبه أن يتقيد بالأمر الصادر إليه بتقديم رده على العريضة في صورتها التي تم تصريحها بها وباعتبارها صالحة للرد عليها دون حاجة إلى تقديم عريضة معدلة وأنه تبعاً لذلك فإن أمر المحكمة يظل قائماً على الوجه الذي صدر به ابتداء.

وبالنسبة لتعقيب هيئة الادعاء رأت هذه المحكمة أن طلبها لاصدار حكم على التراضى والإقرار لا يتماشى وطبيعة الدعوى المتعلقة بحماية حقوق دستورية ومدى حاجتها إلى الحماية القضائية بحيث ينبغى ألا يكون التقرير فيها مبنياً على الإقرار وحده وأن كان ذلك الإقرار واضحاً وجازماً ، فضلاً على أن أساس النزاع يكمن في تفسير الدستور والقانون وعلى المحكمة العليا دون سواها أن تتولاه على أساس من القواعد القانونية المجردة دون اعتبار لإقرار الخصوم إلا في حدود ضيقة جداً قد لا تتوفر أصلا.

ونظراً لطبيعة الدعوى وحاجتها إلى إصدار قرار موضوعى رأت المحكمة أن تستجيب إلى طلب هيئة الدفاع بامهالها مدة شهر للرد على عريضة الدعوى بكل ما اشتملت عليه من تفسيرات.

في جلسة 14/6/1986 تقدم النائب العام بمذكرة دفاع معدلة أقر فيها بما جاء في الفقرات الأولي والخامسة والسابعة والثامنة والتاسعة فيما عدا الرسوم والأتعاب من عريضة الدعوى. وبالنسبة للفقرات الثانية والثالثة والرابعة فقد أنكر علمه بما ورد فيها كما أنكر الفقرة السادسة جملة وتفصيلاً.

رأت المحكمة أن مذكرة الدفاع تلك لا تتفق وطلب النائب العام في أن يمهل مدة شهر للرد على عريضة الدعوى تفصيلياً وعليه أمرت بأن يودع مذكرة جديدة وحددت جلسة 5/7/1986 لذلك الغرض. وفي تلك الجلسة تقدم النائب العام بمذكرة دفاع أقر فيها بكل فقرات الدعوى حسب ترقيمها فيما عدا البندين (ج) و (د) من الفقرة التاسعة المتعلقة بطلبات المدعيين باعتباره لم ينازع في الدعوى.

تحددت جلسة 19/7/1986 لاتاحة الفرصة لهيئة الادعاء لإيداع تعقيبها على مذكرة الدفاع الأخيرة ، وفي تلك الجلسة أودعت هيئة الادعاء تعقيباً مكتوباً أخذت فيه هيئة الدفاع بإقرارها بكل ما جاء في الفقرات التسع من عريضة الدعوى وتنازلت عن طلبيها الواردين بالبندين (ج) و (د) من الفقرة التاسعة. وعليه التمست إصدار حكم لصالح المدعيين بكل طلباتهما فيما عدا البندين (ج) و (د) من الفقرة التاسعة وذلك على أساس أن النائب العام قد أقر صراحة بكل وقائع الدعوى فيما عدا البندين المذكورين.

حددت المحكمة جلسة 30/8/1986 لإصدار قرارها حول تلك المسألة وفي تلك الجلسة طلبت المحكمة من هيئتى الادعاء والدفاع تقديم مرافعات إضافية حول بعض النقاط التي وردت في المذكرات المقدمة أمامها ، وقد وافقت هيئة الادعاء على تقديم مرافعة اضافية خلال عشرة أيام وحددت المحكمة جلسة 10/9/1986 لايداعها. وفي تلك الجلسة أودعت هيئة الادعاء مرافعة ختامية لم تضف جديداً إلى ما سبق إيراده في عريضة الدعوى الأولي التي أحالت إليها وانحصر مضمونها في مناقشة مسألة عدم اختصاص محاكم أو وثاني درجة كما تناولت في جزء منها قضية الردة التي نظرت أمام المحكمة الشرعية في عام 1968 وانتهت إلى القول بأن الإجراءات التي تمت وقتها لم تكن متعلقة بالردة لكون أن الدعوى كانت في الأساس دعوى حسبة. وبإيداع تلك المرافعة حفظت الدعوى للحكم.

هذا هو ملخص ما استندت إليه الدعوى وما تم فيها من إجراء حتى الآن. ومن ذلك يتضح أن الدعوى صرحت واكتملت إجراءاتها إلى أن أصبحت جاهزة للحكم النهائي.

وعلى الرغم من أن تصريح عريضة هذه الدعوى ابتداء انطوى بالضرورة على قرار ضمنى بأنها استوفت أوضاعها الشكلية سواء ما كان متعلقاً عنها باشتمالها على مسألة صالحة للفصل فيها ، أو المصلحة التي تحمل الحق في إقامتها أو تحقق الأوصاف التي تجعل من المدعى عليها خصمه يصح قيام الدعوى في مواجهته... وما إلى ذلك ، إلا أن طبيعة الشكل التي أسست عليها الدعوى قد تكون في حاجة إلى استقصاء، نظراً إلى حداثة ذلك الشكل الذي لم يتناوله تحليل كاف للقدرة من ناحية ، ووضوح ما عرض منه على هذه الدائرة من ناحية أخرى.

فهذه الإجراءات تقوم على شكل حماية حق دستوري طبقاً لنص المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية ، وقد حرصت هيئة الإدعاء على تأكيد ذلك في مرافعتها الختامية في تفريق واضح وصريح بين هذا الشكل من الدعوى والأشكال الأخرى من الدعاوى الدستورية كالطعن في دستورية القوانين.

ولعله من غير العسير استبيان مصدر الحرص على هذا التفريق ، إذ أنه مما لا خلاف عليه أن هذين الشكلين من الدعاوى يثيران مسائل متباينة بشأن الأوضاع الشكلية التي يجب توفرها في كل منهما وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بطبيعة المصلحة التي تكفى لحمل الدعوى والمركز القانوني الذي تتحقق به بصفة الخصوم ، فبينما يكفى الضرر ، مادياً كان أو خلافه ، لاضفاء المصلحة التي تتطلبها إقامة دعوى عدم دستورية القانون ، فإن دعوى حماية الحق الدستوري في حاجة بالضرورة إلى قيام حق دستوري يحتمل بطبيعته أن يكون محلاً لحماية قضائية وفي هذا ما قد يوحي بأن المقاضاة بمثل هذا الشكل من الدعوى لا تجوز إلا من صاحب الحق الموضوعي شخصياً، بحيث لا تكون المصلحة ، مباشرة كانت أو غير مباشرة ، كافية لحمل حق المقاضاة كما هو الحال بالنسبة للدعاوى الدستورية الأخرى.

وحيث أن لمثل هذه التأويل أثراً خطيراً في بعض الحالات كالدعوى قيد النظر التي يقاضى فيها أحد المدعين من خلال حقوق كانت مقررة أصلاً لغيره، فإنه يتعين النظر في مدى سلامة مثل هذا التأويل والقيود التي ينبغى وضعها عليه بغية تحديد المصلحة المطلوبة بمعايير موضوعية.

وفي هذا الشأن، فإنه لا جدال في أن المركز القانوني السليم الذى تتطلبه اقامة دعوى حماية الحق الدستوري لابد أن يتعدى المصلحة المادية البحتة التي تشكل أساس التقاضى في الدعاوى العادية ، إلى ارتباط وثيق بحق مقرر دستورياً تكون حمايته غاية في حد ذاتها، بصرف النظر عما يمكن أن ينشأ عن ذلك الحق من مصلحة عادية، أو يترتب على إهداره من ضرر أياً كانت طبيعته. ولعل هذا ما يمكن اضفاؤه من معنى على عبارة "الحق الدستوري" كما ترد في المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية على أن السؤال يصبح، بعد ذلك ما إذا كان من اللازم أن يكون ذلك الحق ذا طبيعة شخصية؟

أن المادة 325 المشار  إليها لا تتضمن إجابة لمثل هذا السؤال ، غير أن أية إجابة عليه بالإيجاب تنتهى إلى نتائج غير مستساغة منها، أولاً أن تكون القواعد الإجرائية مصدراً لحقوق موضوعية، ومنها، ثانياً ، أن يكون الحق الدستوري عرضة للضياع لمجرد أن إهداره شمل حياة صاحب الحق نفسه، مما يترتب عليه أن يكون من الاصلح لمن يود أن ينتهك حقاً ألا يكتفى بذلك الانتهاك وإنما يوالى سلوكه غير المشروع ذلك بالاعتداء على حياة صاحب الحق واغتياله وبذلك يضفى على أفعاله شرعية ويبقى في مأمن إلى الأبد من أية محاولة في إثارة الأمر من قريب أو بعيد.

ولعلنا لا نكون في حاجة إلى التأكيد 0على أنه من غير الجائز مبدأ ولا لياقة افتراض مثل هذا القصد على المشرع، فذلك مما يتنافى مع المألوف والمرعى من الإجراءات السليمة في التشريع كما يتنافى مع مبادئ العدالة وحكم القانون.

على أنه يجمل أن نقرر هنا أنه ، وحتى إذا كان في المادة 325 ما يحتمل مثل هذا التفسير ، فإننا في هذه الدائرة ، لن نتردد في الالتفات عنه لغيره نظراً إلى عقيدتنا الراسخة في أنه ما من تشريع إجرائى ينبغى أن يحول بين هذه المحكمة والنفاذ إلى الحقوق الموضوعية للمواطنين ، إلا ما كان منه صريحاً وأمراً يرقى إلى تجاوز الحدود الدستورية المقررة للمحكمة العليا بموجب المادة 125 من الدستور الانتقالي. فالنصوص الإجرائية لا تتعدى في هدفها تنظيم الوسائل التي تتحقق بها كفالة الحقوق الموضوعية ، ولذلك فإنها ينبغى أن تنأى عن فرض قيود تنقص من تلك الحقوق أو تحول دون اقتضائها.

أن القضاء ملاذ للجميع وحق الالتجاء إليه حق مطلق فيما تنص عليه المادة 26 من الدستور الانتقالي. أما حق الدعوى فهو ، وأن كان مرتبطاً بالحقوق الموضوعية، إلا أنه لا يتقيد بشكل محدد من الرابطة بتلك الحقوق بما يحصر الصفة في صاحبها دون غيره، فإذا أخذت المادة 32 من الدستور الانتقالي على إطلاقها ، لا تسع حق التقاضى في حماية الحقوق الدستورية بما يشمل أي شخص دون تحديد، إلا أننا نرى أن المادة 32 تلك لم تقصد أن يرد الحق مطلقاً وإنما أن يرتبط بالحقوق الموضوعية بحيث لا تتوفر الصفة في إقامة الدعوى إلا لمن كانت له مصلحة قانونية في تلك الحقوق الموضوعية أو وفي حمايتها.

وترتيباً على ذلك، فإننا نقرر أن ما يتلافى التطبيق الجائز من تفسير المادة 325 من قانون الإجراءات المدنية، والتوسع غير المعقول الذي يرد في المادة 32 من الدستور الانتقالي ، هو أن صفة اقامة الدعوى إنما تتحقق بمصلحة جدية وحقيقية في موضوع الدعوى. ولا يلزم لاثبات ذلك أن يكون المدعى هو صاحب الحق الدستوري نفسه، بل يكفى أن تكون له مصلحة مباشرة في ذلك الحق تبيح له عدالة أن يدعى لنفسه حقاً في أن يقوم مقام صاحب الحق الأصلى.

وإننا لندرك تماماً، وبطبيعة الحال، ما يتصف به هذا المعيار من عمومية إلا أن ذلك مرده استحالة وضع معيار شامل إلا بصفة عامة، فالقرار في طبيعة المصلحة المباشرة المطلوبة يعتمد بالضرورة على اعتبارات دقيقة تختلف من حالة لأخرى ولا يتسنى التقرير فيها بمعزل عن ظروف كل مصلحة مدعى بها على حداها.

وعلى هدى من هذا النظر ، فإننا نرى أن حق المدعيين في إقامة هذه الدعوى ثابت لا لأن لهما مصلحة مباشرة في الحقوق المدعى بإهدارها فحسب ، وإنما أيضاً لأن تلك الحقوق ذاتها تشكل حقوق شخصية لهما.

فالمدعية الأولي، وبحكم أنها ابنة محمود محمد طه الذى تم إعدامه تملك حقاً شرعياً وقانونياً في حياة والدها ، تلك الحياة التي تشكل جوهر هذه الدعوى التي تقوم على أن الإجراءات التي تمخض عنها ذلك الإعدام كانت مشوبة ببطلان سببه إنتهاك حقوق قانونية ودستورية.

ثم أن للمدعية الأولي حقاً مباشراً في كل الحقوق التي كانت قد نشأت لوالدها قبل إعدامه طالما كانت تلك الحقوق هي السبب القانوني لحقها ذلك أو ذات أثر مباشر في حقوقها الشخصية الخالصة التي يمكن تأسيسها على الضرر الذي أصابها نتيجة لحرمانها من والدها كشخص لها حق الرجوع عليه في إعالتها فضلاً عن الاستظلال بأبوته بكل ما في ذلك من معانى انسانية.

أما المدعى الثاني، فقد وقع الاهدار المدعى به على حقوقه الشخصية مباشرة نظراً إلى أنه واحد من الذين شملتهم الإجراءات المطعون في سلامتها. ولا يقدح في هذا النظر أن ثمة إجراءات عرفت بالاستتابة تمت فيما بعد وتمخض عنها إلغاء حكم الاعدام الذي كان قد صدر في حقه مما أنقذه من المصير الذي لقيه زميله محمود محمد طه، إذ أن تلك الإجراءات ذاتها محل طعن في هذه الدعوى بحجة أنها وقعت دون سند من القانون وبقهر يبطل آثارها القانونية. وإزاء هذا فإن ما صدر في إجراءات الاستتابة من قرار لا يصلح للرد على الدعوى ، إذ من شأن القول بذلك ما يضفى شرعية على تلك الإجراءات خلافاً لما تقوم عليه الدعوى من طعن فيها. ولما كان الأمر كذلك ، فإنه ما من طريق غير اخضاع موضوع الدعوى ، بما في ذلك أمر الاستتابة، للتحقيق بغرض التقرير في سلامة كل ذلك، وقبل أن يكون من الجائز ترتيب نتيجة على قرار الاستتابة.

على أنه، وحتى إذا سلمنا بصحة إجراءات الاستتابة ، فإن القرار الصادر فيها، وأن كان يلغى حكم الإدانة بالردة وعقوبة الإعدام عنها في مواجهة المدعى الثاني وبقية رفاقه ، إلا أنه لا يلغى الإدانة بجرائم أخرى شملها الحكم، ولا صدور الحكم ، على أي حال كواقعة ، بكل ما انطوت عليه من مخالفات مدعى بها للدستور والقانون وما ترتبت على ذلك من أضرار مادية ومعنوية. ثم أن القرار لا يلغي ما وقع على المدعى الثاني كواحد من الجمهوريين مما ورد في الحكم من حظر لنشاطهم سواء كان وصفه السليم سياسياً أو دينياً ومن قرار الاعتبار الاعتناق بعقيدتهم ردة عن الإسلام (راجع حكم محكمة الاستئناف). ولعله مما لا ريب فيه أن هذا الحكم سيبقى على الأقل من وجهة النظر الحرفية للقانون سيفاً مسلطاً على رقاب الجمهوريين فيما لو فكروا في معاودة نشاطهم طالما ظل هذا الحكم أو  مجرد مضمونه قائماً.

وحيث أنه من الثابت مما سبق بيانه أن للمدعيين حقاً في إقامة هذه الدعوى فإنه يتعين النظر فيها موضوعياً.

وفي هذا الشأن ، فإن جوهر الدعوى هو أن إجراءات محاكمة والد المدعية الأولي والمدعى الثاني وآخرين اتصفت بمخالفات عديدة للقانون والدستور الساري وقتئذ على الوجه المفصل في المذكرات المقدمة من هيئة الادعاء والتي أوردنا ملخصاً وافياً لها في صدر هذا الحكم، ويترتب على ذلك في تقدير الادعاء، إهدار لحقوق كفلها ذلك الدستور ومنها الحق فى محاكمة عادلة طبقاً لنص المادة 64، والحق في عدم رجعية التجريم والعقوبات فيما نصت عليه المادة 70 وعدم تكرار المحاكمة بذات التهمة طبقاً لنص المادة 71.

وقبل أن نتناول المسائل التفصيلية التي تشتمل عليها هذه الدعوى، فإنه يلزم أن نقرر أنه من الخطأ في تقديرنا النظر إلى هذه الدعوى على اعتبار أنها دعوى في مواجهة شخص بذاته أو أشخاص بأعينهم، فعلى الرغم مما يرد في مواضع مبعثرة في عريضة الدعوى من عبارات تنطوى على اتهامات للبعض ممن كانوا في مواقع المسئولية وعاصروا الإجراءات محل هذه الدعوى بالتآمر وما إلى ذلك مما يصلح سبباً لدعاوى جنائية إلا أن الدعوى فيما قامت عليه من شكل في مواجهة السلطة في وصفها الرسمي، وما حملت عليه من أسانيد موضوعية هدفها حماية حقوق دستورية مدعى بإهدارها تصبح قائمة على قاعدة من الإجراءات محددة في طبيعتها ونتائجها مما اقتضى قانوناً إعلان النائب العام كممثل قانوني للسلطة التنفيذية طبقاً لنص المادة 329 من قانون الإجراءات المدنية، دون أن تقوم حاجة في نفس الوقت إلى اختصام جهات أخرى لا شأن لها بالمسائل الدستورية التي تحمل هذه الدعوى والتي تستقل هذه المحكمة بالفصل فيها فيما أكدته في معرض رفضها بتاريخ 8/5/1986 للطلب المقدم من هيئة الإدعاء لاصدار حكم على إقرارات النائب العام.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن النائب العام قد أقر بالدعوى في كافة تفاصيلها ، إلا أن المحكمة قد أعلنت في وضوح قرارها في عدم سلامة التعويل على تلك الإقرارات أو ترتيب آثار مطلقة عليها. وليس في هذا جحود بحق النائب العام في تمثيل المدعى عليها وما ينشأ له عن ذلك من سلطة في التصرف يقع قيداً على المدعى عليها، وإنما لأن طبيعة الدعوى، بما تثيره من مسائل دستورية وقانونية، تجعل الفصل فيها من صميم اختصاصات المحكمة والتي تضطلع بها بمعزل عن إقرارات وآراء  الخصوم أو ممثليهم.

وإذا كان هذا هو تكييف المحكمة لوضع الإقرارات في المسائل الدستورية والقانونية، فإن إقرارات النائب العام فيما يتعلق بالوقائع تخضع في تقدير المحكمة لقاعدة مماثلة هي أنه لا يجوز للنائب العام الإقرار بمسألة لا تتعلق بالمدعى عليها التي يمثلها ، فإذا تبين أن الواقعة محل الاقرار مما تنتج أثراً في مواجهة شخص غير الحكومة، فإنه لزم أن تلتفت عنها المحكمة.

وترتيباً على ذلك، فقد عولت المحكمة على الثابت من الوقائع بالمستندات الرسمية من ملفات القضايا ومحتوياتها ، وما جاز قانوناً للمحكمة أن تأخذ به علماً قضائياً ، ثم ما صدر عن النائب العام من إقرارات في حدود سلطته في ذلك كممثل قانوني للمدعى عليها.

وعلى هدى من كل ذلك تتناول المحكمة أسانيد في تفاصيلها فيما يلى:

أن أول ما تثيره عريضة الدعوى هو أن تشكيل المحكمة الجنائية رقم (4) التي أصدرت حكم الإعدام وقع باطلاً لما اتصف به قرار التشكيل من تجاوز للقانون الذي صدر ذلك القرار بموجبه. وفي بيان ذلك تقول العريضة أن قرار التشكيل (وهو القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ) استند إلى المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ ، بينما تلك المادة، وأن كانت تضفى على رئيس الجمهورية السابق سلطة تشكيل المحاكم، إلا أنها تخوله سلطة تعيين القضاة الجالسين فيها حيث أن التعيينات القضائية ما تنظمها مواد أخرى في القانون هي المواد من 20 إلى 29 شاملة.

وما تذهب إليه هيئة الإدعاء في هذا الشأن صحيح بلا ريب فيما لو كان محل الاعتبار هو الشكل دون غيره ، إلا أنه وبالنظر إلى ما اشتمل عليه قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ من سلطات استثنائية لرئيس الجمهورية السابق في التعيينات القضائية كالمادة 29 (ب) فإن تعيين أحد القضاة العاملين في الهيئة القضائية في محكمة بذاتها يصبح مخالفة شكلية لا تمس جوهر السلطات التي استأثر بها رئيس الجمهورية السابق بنصوص صريحة في القانون. ويترتب على ذلك أن تصبح الإشارة في القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ للمادة 16 (أ) خطأ شكلياً ينبغى عدم اضفاء وزن عليه. ولعل هيئة الادعاء قد تبينت ذلك منذ البداية ، إذ أنها استطردت بحجة بديلة قوامها أنه حتى إذا كان تعيين القاضى الجالس في المحكمة رقم (4) صحيحاً، فإن هناك ما يدل على أنه ، حين قام بتوجيه تهمة بموجب المادة 3 من قانون أصول الأحكام، فعل ذلك بتوجيه خارجي ، مما يلقى ظلالاً على حيدته ومن ثم ، ينعكس على إجراءات المحاكمة وما تمخض عنها من حكم ويضيف مخالفة جديدة إلى المخالفات التي انطوت عليها تلك المحاكمة.

وأننا وأن كنا نرى مع هيئة الادعاء في الاضطراب الذي يكشف عنه محضر الدعوى الجنائية وفي الأسلوب الذي تم به تعيين قاضى المحكمة ما لا يدعو للاطمئنان على تجرد تلك المحكمة إلا أننا، وفي ذات الوقت لا نجد سنداً قانونياً لما انتهت إليه هيئة الادعاء من نتيجة إذ أن ما تدعيها الهيئة في هذا الصدد أمر يتعلق بالوقائع التي لا أثر في المحضر لأدلة تثبتها ، ولا يكفى بشأنها إقرار النائب العام طالما كانت تلك الوقائع مما يرتب أثراً على أشخاص لا يدخلون في نطاق من يمثلهم النائب العام في هذه الدعوى. وعلى ذلك فإن إقراره يكون مردوداً عليه بانعدام صفته القانونية في إطلاق مثل هذا القرار.

يبقى من عريضة الدعوى فيما تعيبه على المحكمة الجنائية أن تلك المحكمة قامت باضافة المادة 3 من قانون أصول الأحكام إلى المواد التي وجهت تهماً جنائية بموجبها. وترى هيئة الادعاء في هذا أولاً أنه ونظراً إلى أن قانون أصول الأحكام ليس قانوناً عقابياً ، فإن المحكمة تكون قد أضفت على نفسها صفة تشريعية لم تكن تتمتع بها بطبيعة الحال، وثانياً أنه ومهما كان وجه الرأي فيما تقدم، فإن المحكمة وفيما انتهى إليه حكمها باستتابة المحكوم عليهم، تكون قد أوحت بأن المحكوم عليهم أدينوا بتهمة الردة بينما لم توجه إليهم تهمة كهذه في واقع الأمر.

ولما كان هذا النعى في شقه الأول هو جوهر ما تستند إليه الدعوى فيما يتعلق بواقعة توجيه تهمة الردة صراحة في مرحلة التأييد في محكمة الاستئناف ، فإنه من غير المناسب أن نتصدى للمسألة في هذه المرحلة حيث يكون النظر فيه أكثر ملاءمة في ضوء الأسباب التفصيلية التي وردت حول الأخطاء التي وقعت في مرحلة التأييد. أما فيما يتعلق بالشق الثاني ، فإنه يكفى للفصل فيه أن نحيل هيئة الادعاء إلى ما قررته بنفسها من أن ما صدر عن المحكمة الجنائية لا يعدو أن يكون مجرد تضمين للمادة 3 المشار إليها في مواد الاتهامات دون توجيه تهمة محددة بموجبها. وفي ذلك في تقديرنا ما يجعل الإشارة إلى الاستتابة في نهاية حكم تلك المحكمة مجرد تزيد لا معنى له طالما وردت الإدانة بموجب مواد في قانون العقوبات وقانون أمن الدولة وحدهما، فالقول بغير ذلك فيه تحميل للحكم ما لا يتضمنه صراحة، إهدار للقواعد القانونية والمألوفة في إصدار الأحكام والتي تسرى على وجه الخصوص على الأحكام الجنائية التي تقوم على قرينة البراءة ومبدأ تفسير الشك لمصلحة المتهم.

وحيث أن الأمر كذلك ، وعلى الرغم مما شاب إجراءات المحكمة الجنائية من أخطاء بدأت بتعيين القاضي الجالس فيها، والاضطراب الذي اعتور محضر المحاكمة في الشكل وفي المضمون على حد سواء، فإن هذه الدائرة وبعدما أرجأت النظر فيه من مسألة لا ترى في ذلك ما يرقى إلى إهدار ظاهر وكامل لأي حق دستوري لأي من المدعيين.

ومن ثم تنتقل المحكمة إلى تناول إجراءات التأييد في محكمة الاستئناف على اعتبار أنها تشكل العيوب التي تقوم عليها هذه الدعوى مما يحتاج إلى تقرير مفصل.

على أنه يجمل القول، ومهما كان وجه الرأي فيما يتعلق بتلك العيوب ، وأنه يبين من مطالعة إجراءات محكمة الاستئناف تلك ، أنها انتهجت نهجاً غير مألوف وأسلوباً يغلب عليه التحامل مما جعل الاطمئنان إلى عدالة حكمها أمراً غير ميسور وعرضة للمعايير السياسية التي لا شأن لها بالأحكام القضائية.

لقد تم تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية بموجب القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ ذاته الذي شكلت بموجبه المحاكم الجنائية وقد استند القرار ، فيما أوضحنا من قبل، على المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وذلك على الرغم من أن تلك المادة خالية من أية إشارة إلى سلطة في تشكيل محاكم استئناف واقتصرت على المحاكم الجنائية دون غيرها. بيد أن هذا الخطأ أيضاً لا يعدو أن يكون شكلياً إذا راعينا أن القانون لم يسكت عن سلطة تشكيل محاكم الاستئناف وإنما نص على تلك ولكن في مادة أخرى هي المادة 18. وفي ذات الوقت لا نرى في خروج تشكيل المحكمة عن النهج السائد حيئذ في تكوين المحاكم من قاض فرد ما يبطل ذلك التشكيل إذ أن المتصور في الظروف العادية أن يكون في زيادة عدد القضاة الجالسين في المحكمة الواحدة ما يضفى ضماناً إضافياً لفرص العدالة.

على أننا لا نرى مناصاً من الاتفاق مع هيئة الإدعاء في أن محكمة الاستئناف وخلافاً لكل ما كان مأمولاً في تشكيلها، انحدرت إلى درك من الإجراءات المستحدثة انتهت بها في نهاية الأمر إلى اصدار حكم جديد لا صلة له بالحكم الذي عرض عليها للتأييد.

وقبل أن نبين وجه ذلك ، فإنه يجمل أن نقرر أن محكمة الاستئناف لم تغتصب سلطة التأييد بنفسها وإنما مارست سلطة أضفاها عليها قرار إنشائها ، وهو قرار يقع وزر ما اعتوره من خطأ أن كان هناك ثمة خطأ على من أصدره دون أن يمتد ذلك إلى من قام بتنفيذه طالما كان القرار نافذاً وملزماً وقتئذ.

على أن محكمة الاستئناف ، وفيما نوهنا به، اشتطت في ممارسة سلطتها على نحو كان يستحيل معه الوصول إلى حكم عادل تسنده الوقائع الثابتة وفقاً لمقتضيات القانون. ويبين ذلك جلياً مما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت:

ثبت لدى محكمة الموضوع من أقوال المتهمين ومن المستند المعروض أمامها وهو عبارة عن منشور صادر من الأخوان الجمهوريين أن المتهمين يدعون فهماً جديداً للإسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم ...الخ.

وبمراجعة المستند المشار إليه وأقوال المتهمين التي أدلوا بها أمام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التى نفذت إليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي أن المحكمة قد قررت منذ البداية أن تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما يطرح أمامها من إجراءات قامت على مواد محددة في قانوني العقوبات وأمن الدولة وأدى إلى تحريكها صدور منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل.

وسرعان ما اكتشف أمر المحكمة ، حين وقعت عينها على ما ورد في حكم المحكمة الجنائية من إشارة إلى (التوبة) فاعتبرت ذلك (إشكالاً) لابد لها من أن توجد له حلاً ، لأن التوبة ليس منصوصاًَ عليها في العقوبة المذكورة (تعنى عقوبة الإعدام التي أصدرتها المحكمة الجنائية) ولعل محكمة الموضوع جعلتها من قبيل السكوت عنه الذي يجوز الحكم به وفي المادة 3 من قانون أصول الأحكام لما لاحظت في المنشورات (هكذا بالجمع) موضوع البلاغ من العبارات الموجبة للردة فحكمت عليهم بالعقوبة الشاملة لحد الردة مع اعطائهم فرصة التوبة والرجوع إلى الصراط المستقيم.

واستطردت المحكمة بقولها: "ولكى نقوم هذا القرار التقويم الصحيح لابد من الإجابة على سؤالين: الأول هل الردة معاقب عليها في القانون؟ والثاني، هل كان فعل محمود ومن معه يشكل ردة وخروجاً على الدين؟".

وفي الإجابة على السؤال الأول خلصت المحكمة إلى أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام "تعطى حق الحكم في الأمور المسكوت عنها" وأن الردة جريمة ثابتة بالكتاب والسنة والاجتهاد، وأن المادة 458 (3) من قانون العقوبات تبيح توقيع العقوبة الشرعية ولما كانت الردة حداً شرعياً فإنه يلزم توقيع عقوبتها، أما بالنسبة للسؤال الثاني، فقد استهلت المحكمة الإجابة عليه بقرار جازم بأن "المحكوم عليه محمود محمد طه (هكذا وحده) مرتد بأقواله وأفعاله في يومية التحرى التي أقر بها أمام المحكمة وأقواله المدونة المعرفة لدى الناس عامة وأفعاله الكفرية الظاهرة فهو  تارك للصلاة لا يركع ولا يسجد...الخ".

ثم استشهدت المحكمة بحكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم الذي صدر في عام 1968 بإعلان ردة محمود محمد طه واستعرضت بعضاً مما جاء في كتب صدرت عن الجمهوريين وما صدر عن المجلس التأسيسي رابطة العالم الإسلامي حتى تأييد الحكم عام 1968 وما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بجمهورية مصر العربية من وصف لفكر محمود محمد طه "بالفكر الملحد" وخلصت محكمة الاستئناف الجنائية من كل ذلك إلى أنه "مما تقدم يتضح أن محمود محمد طه مرتد عن الدين ليس فقط ردة فكرية فردية وإنما هو مرتد بالقول والفعل داعية إلى الكفر معارض لتحكيم كتاب الله.

ولعلنا لا نكون في حاجة إلى الاستطراد كثيراً في وصف هذا الحكم فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارفاً عليه، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليها صراحة ، أو انطوى عليه دستور 1973م (الملغى) رغم ما يحيط به من جدل.

ففي المقام الأول أخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت إليه من أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام لسنة 1983 كانت تبيح لها أو لأي محكمة أخرى توجيه تهمة الردة. وإن كان ثمة ما يفرق هذا بين محكمة الاستئناف وأي محكمة أخرى فإن ذلك هو أن محكمة الاستئناف كانت مقيدة كسلطة تأييد بقيود إضافية أخرى على ما سنتناوله من تفصيل فيما بعد. على أننا نرى حاجة ملحة في هذه المرحلة إلى بيان وجه الخطأ في التأويل الذي أوردته محكمة الاستئناف بشأن المادة 3 المشار إليها نظراً لما يبدو لنا من أن هذا المفهوم الخاطئ ليس قاصراً على تلك المحكمة ونظراً للخطورة البينة في كل ذلك. ورغم أن المادة 3 على أي معنى أخذت لم تعد تسرى على المسائل الجنائية (أنظر التعديل الصادر فيها بتاريخ 24/4/1986، إلا أن الحاجة إلى تحديد إطارها مازالت قائمة لا بشأن آثارها محل النظر أمامنا فحسب، وإنما لأغراض في الفقه والسياسات التشريعية في المستقبل.

أن المادة 3 من قانون أصول الأحكام كانت تقرأ كما يلى:

على الرغم مما قد يرد في أي قانون آخر ، وفي حالة غياب نص يحكم الواقعة..الخ ومؤدى ذلك أن سكوت القانون عن مسألة ثابتة شرعاً لا يخول دون تطبيق المبدأ الشرعي ولا خلاف بعد هذا على أن في الإسلام جريمة تسمى الردة وعلى أن قانون العقوبات، وهو القانون الجنائي الشامل، لم ينص صراحة على الردة كجريمة. فهل في ذلك ما كان يبيح للمحكمة توجيه تهمة الردة.

أن الإجابة التي أوردتها محكمة الاستئناف لهذا السؤال ، وإن لم تكن محمولة على أسباب، تكشف عن فهم صار للمادة 3 هو أن مجرد السكوت عن مسألة ما يكفى لاطلاق يد المحكمة في تطبيق ما عن لها من قواعد تعتقد في ثبوتها شرعاً ، ولم تفطن المحكمة ، إلى أن سكوت القانون عن مسألة ما قد يقترن بمعالجة للمسألة ذاتها في صيغة أخرى لا تجعل شرط السكوت متحققاً في  واقع الأمر. فالجريمة "المسكوت عنها" في قانون العقوبات فيما قالته محكمة الاستئناف غير مسكوت عنها في المادة 70 من الدستور الملغى إذ أن تلك المادة كانت تقرأ كما يلى:

"لا يعاقب شخص على جريمة ما إذا لم يكن هناك قانون يعاقب عليها قبل ارتكاب تلك الجريمة.." ومؤدى ذلك أنه ما لم يكن هناك قانون يجرم الفعل وقت ارتكابه فإنه لا مجال لاعتبار الفعل جريمة، والقانون هنا هو التشريع ، رئيسياً كان أو فرعياً (راجع في هذا التعريف عبارة "قانون" في قانون تفسير القوانين والنصوص العامة) فإذا خلا القانون العقابى الشامل فيما رأيناه عن أي نص صريح على جريمة الردة، فهل كان من شأن نص المادة 3 من قانون أصول الأحكام ما يجعل تلك الجريمة منصوصاً عنها بطريقة أو أخرى؟

أنه مما لا جدال عليه أن قانون أصول الأحكام لا يشتمل هو الآخر على نص صريح على جريمة اسمها الردة (أو حتى أية جريمة أخرى) إذ أن ذلك القانون ليس قانوناً عقابياً من حيث المبدأ ، إلا أن ما أدى إلى هذا الخلط هو أن المادة 3 من ذلك القانون أضفت على المحكمة سلطة غير مألوفة في استحداث المبادئ غير المنصوص عنها ، ويبدو أنه ما من أحد وقف يتأمل فيما إذا كان في ذلك ما يضفى على المحاكم سلطة تشريعية فيما يتعلق باستحداث جرائم خلافا ًللمبدأ المقرر فقهاً ونصاً في عدم رجعية القوانين العقلية وما إذا كانت السلطة الممنوحة للقضاة على الوجه الذي نصت عليه المادة 3 مما يمكن أن يغنى عن النص الصريح أو يقوم مقامه بما يجعلها متسقة مع نص المادة 70 من الدستور؟

أننا نرى بداية أن ما نصت عليه المادة 3 لم يكن من شأنها اضفاء سلطة ترقى في طبيعتها إلى سلطة في التشريع لا تختص بها المحاكم أصلاً. ونرى أيضاً أن المادة 70 من الدستور حين أحالت أمر النص على الجريمة إلى القانون إنما هدفت إلى أن تكون السلطة في يد المشرع دون غيره يمارسها بوضع نصوص صريحة ولا يمكن بأي حال تفسير المادة 70 على وجه يجعل الإشارة إلى عبارة (القانون) إشارة إلى جهة لا صفة لها في التشريع، سواء أكانت هي المحاكم أو خلاف ذلك ، ذلك لان احالة الأمر للقانون لم تكن دون حكمه ، إذ أن التشريع بطبيعته يتميز بالعلانية والمستقبلية والخلو من المفاجآت وفي هذا ما يضمن تحقيق الهدف من المادة 70 وهو عدم رجعية القوانين الجزئية ، أما وضع سلطة تقرير الجريمة في يد القاضى فإنه من شأنه أن يهدر ذلك الحق نظراً إلى ما قد يحمله قرار القاضى من مفاجآت بسبب أن تلك القرارات ترد بطبيعتها على مسائل وقعت قبل ذلك القرار. وحيث أنه لا ينبغى تفسير القانون بما يتعارض مع الحقوق الدستورية فإن القانون الذي كان ينبغى أن يحدد الجرائم طبقاً للمادة 70 من دستور سنة 1973 الملغى هو التشريع الصريح الصادر من جهة تشريعية مختصة دون غيره وما كان ليغنى عنه نص مبهم في قانون صدر متزامناً مع قانون عقوبات شامل لم يترك شاردة ولا واردة ومع ذلك لم يجرؤ على النص على جريمة خطيرة كجريمة الردة كانت هي الأولي بالنص الصريح فيما لو  كان المشرع راغباً حقاً في ذلك، جاداً في توجيهه ونهجه وواعياً بمنهجه.

أن ما تقدم يحكم تطبيق المادة 3 من قانون أصول الأحكام عموماً وفي أية حالة كانت عليها الدعوى الجنائية ، غير أن تطبيق المادة وفي مرحلة التأييد بإضافة تهمة جديدة لم يتم توجيهها في مرحلة المحاكمة يضيف عيباً جديداً هو أن اشتطاط المحكمة لا يكون قد وقف عند حد إغفال التقاليد القضائية التي سادت هذه البلاد عبر السنين الطويلة فحسب وإنما أيضا يكون قد امتد إلى مخالفة النصوص الصريحة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يحكم إجراءات التأييد إذ لا سند في المادة 238 من ذلك القانون التي تحدد سلطات جهة التأييد لما اتخذته محكمة الاستئناف من إجراء.

على أن محكمة الاستئناف لم تكن عابئة فيما يبدو بدستور أو قانون إذ أنها جعلت من إجراءات التأييد التي ظلت تمارسها المحاكم المختصة في سماحة وأناة وبغرض مراجعة الأحكام مراجعة دقيقة وشاملة ، محاكمة جديدة قامت فيها المحكمة بدور الخصم والحكم بما حجبها عن واجبها، حتى بفرض صحة توجيه تهمة جديدة في هذه المرحلة أن تعيد الإجراءات مرة أخرى لمحكمة أول درجة لاعادة المحاكمة بموجب التهمة الجديدة وذلك فيما تقضى به المادة 238 (هـ) من القانون أو أن تتجه إلى سماع المحكوم عليهم بنفسها وفاءً بواجبها في ذلك بموجب المادة 242 من القانون ذاته ، التي وان كانت ترد في صيغة سلطة تقديرية إلا أنها تأخذ شكل الإلزام عندما يكون السماع ضرورياً ولا نرى ضرورة توجب السماع أكثر من أن يكون الحكم الذي تقرر المحكمة إصداره بالردة عقوبتها الإعدام.

ومهما كان من أمر النصوص القانونية فإن سماع المتهم قبل إدانته مبدأ أزلى لم يعد في حاجة إلى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الإنسانية على اختلاف عناصرها وأديانها باعتباره قاعدة مقدسة من قواعد العدالة الطبيعية.

وقد كان منهج محكمة الاستئناف أكثر غرابة حين استندت في حكمها على مسائل ليس من شأنها أن تقوم الأدلة التي يجوز قبولها قانوناً. ومن ذلك ما أشارت إليه تلك المحكمة من الأقوال "المعروفة للناس عامة" والأفعال "الفكرية الظاهرة" في ترك الصلاة وعدم الركوع أو السجود.. وما إلى ذلك مما لا يتعدى في أحسن حالاته الأقوال النقلية والعلم الشخصى وليس في أي منها ما يرقى إلى الدليل المقبول قانوناً (راجع المادتين 26 و 35 من قانون الإثبات لسنة 1983).

ولم تكتف المحكمة في مغالاتها بهذا القدر وإنما تعدته إلى الاستدلال بقرارات وآراء جهات لا سند في القانون للحجية التي أضفتها المحكمة على اصدارتها. أما حكم محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي عولت محكمة الاستئناف الجنائية عليها كثيراً، فإنه يستوقفنا فيه أنه حكم وطنى يلزم استبيان حجيته نظراً إلى ما يمكن أن تثيره طبيعته الوطنية من تساؤل حول تلك الحجية. والحكم المشار إليه صدر في 19/11/1968 في القضية 1035/68 حيث قضت محكمة الاستئناف الشرعية العليا بالخرطوم بإعلان محمود محمد طه مرتداً. وأول ما تجدر ملاحظته في شأن ذلك الحكم أنه صدر حسبة كما وقع غيابياً. والسؤال الذي يفرد نفسه هو ما إذا كان في ذلك ما يقوم مقام الحكم الجنائي بالردة؟

وفي تقديرنا أن الإجابة القطعية أن ذلك الحكم لا يستحق هذه الصفة وذلك لأن المحاكم الشرعية ومن بينها محكمة الاستئناف الشرعية العليا في ذلك الوقت.. لم تكن تختص باصدار أحكام جنائية، بل كان اختصاصها مقتصراً على مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين من زواج وطلاق وميراث وما إلى ذلك مما كانت تنص عليه المادة الخامسة من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 السارى وقتئذ (وليست المادة 6 من قانون 1902 فيما تشير إليه هيئة الإدعاء) .

ولعل أبلغ دليل على عدم اختصاص المحكمة الشرعية فيما أصدرته من حكم أن ذلك الحكم جاء غيابياًَ فما نحسب أن محمود محمد طه كان حصيناً من سلطة الاجبار التي كانت تتمتع بها المحكمة فيما لو كانت محكمة ذات اختصاصات جنائية. كما يقف دليلاً على عدم الاختصاص أن المحكمة لم تجد سبيلاً لتنفيذ الحكم لا في ذلك الوقت ولا في أي وقت لاحق وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه خاصة وأن للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية.

ونخلص من كل ما تقدم إلى أن إجراءات محكمة الاستئناف الجنائية في إصدار حكم الردة في مواجهة محمود محمد طه ورفاقه كانت وللأسباب التي سبق تفصيلها، جاحدة لحقوق دستورية وقانونية شرعت أصلاً لكفالة محاكمة عادلة.

أما السلطة العامة لتلك المحكمة في تأييد أحكام المحاكم الجنائية التي تم تشكيلها بموجب المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ فقد نص عليها القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ ومن الناحية العامة ، فإن ذلك، وفيما نوهنا به من قبل ، قرار يتحمل وزره من أصدره على أنه ينبغى النظر إلى سلطة التأييد تلك من زاويتين ، أولاهما مدى سلامة القرار الجمهوري في هذا الشأن ، وثانيهما أثر ذلك في عدالة الإجراءات التي تمت بممارسة تلك السلطة.

وبالنظر إلى الأمر من الزاوية الأولي يبين أن المادة 18 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ التى كانت تصلح سنداً لتشكيل محاكم الاستئناف الجنائية كانت تنص على ما يلى:

تستأنف أحكام وقرارات المحاكم الجنائية المكونة بموجب المادة 16 (أ) من هذا القانون أمام محكمة الاستئناف التي يحددها قرار التكوين ويحدد إجراءتها.

وقد نص القرار الجمهوري رقم 35 "وهو قرار التكوين المشار إليه في المادة 18" في الفقرة (ز) من المادة الثالثة منه على ما يلى:

تتولى محكمة الاستئناف التوصية لرئيس الجمهورية بشأن أحكام الإعدام والرجم قبل رفعها للتأييد.

والسؤال الذي يثيره هذان النصان هو ما إذا كان فيهما ما يضفى على محكمة الاستئناف سلطة في تأييد الأحكام تطغى على سلطة المحكمة العليا في هذا الشأن والمنصوص عليها في المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية.

والإجابة على ذلك تعتمد في المقام الأول على ما إذا كان منح مثل هذه السلطة يدخل في معنى عبارة "تحديد الإجراءات" الواردة في المادة 18؟

وفي تقديرنا أنه من الجائز عموماً أن ينطوى تحديد الإجراءات على منح بعض السلطات التي قد تكون ضرورية ولازمة في معرض تلك الإجراءات إلا أنه من غير المنصوص أن تمتد  تلك السلطات إلى مستوى يشكل تغولاً واعتداء على جهات تستمد صلاحيتها من القانون نفسه. وعلى وجه الخصوص فإننا نرى أنه ليس من شأن السلطات الممنوحة على هذا الوجه أن تسلب محكمة أعلى مقاما كالمحكمة العليا ، من صلاحياتها التي يقررها قانون نافذ لا يقل درجة عن القانون المانح للسلطة، بل ومن الدستور نفسه وهو مصدر القوانين والسلطات. فالقول بخلاف ذلك ينتهى إلى نتيجة غير مستساغة هي أن السلطات المقررة للمحكمة العليا عرضة للمصادرة بتشريع فرعى أو قرار تنفيذى وهو ما لا يجد سنداً لا في نص صريح ولا في المبادئ العامة للشرعية.

على أنه، ومهما كان وجه الرأي بشأن سلطات محكمة الاستئناف الجنائية، فإنه طالما ظلت المادة 234 من قانون الإجراءات قائمة ونافذة، فإنه كان ينبغى عرض الأحكام الصادرة ضد محمود محمد طه وزملائه على المحكمة العليا سواء قبل تأييدها في محكمة الاستئناف أو بعد ذلك.

وإذا كان هذا هو التكييف القانوني للقرار الذي منحت به في محكمة الاستئناف سلطة تأييد  الأحكام، فإن لذلك القرار وجهاً آخر ذا أثر خطير ومباشر في تأييد حكم الاعدام في حق المحكوم عليهم ومن بعد ذلك في تنفيذ ذلك الحكم على أحدهم وهو محمود محمد طه.

ففي هذا الشأن لم تقتصر مخالفات محكمة الاستئناف الجنائية (التي استقلت بسلطة التأييد) في اصدار حكم بالردة ، وإنما امتدت إلى تأييد أحكام الإعدام التي صدرت ترتيباً على الإدانة بموجب قانوني العقوبات وأمن الدولة. وهذا التأييد ، وأن كان محمولاً على أسباب هي في ظاهرها اقتناع بثبوت الإدانة وتناسب العقوبة ، إلا أنه في واقع الأمر محمولاً على الردة التي استحوذت على جل ، أن لم يكن كل اهتمام محكمة الاستئناف الجنائية.

وقد ترتب على استقلال محكمة الاستئناف بسلطة التأييد على هذا الوجه أن فات على المحكمة العليا ، ليس فقط حصر الإدانة أن كان ثمة ما يسندها في الاتهامات الموجهة بموجب قانوني العقوبات وأمن الدولة دون غيرهما ، وإنما أيضاً أن تقصر العقوبة على ما كان يتناسب وفعل المحكوم عليهم وهو فيما نعلم لا يتعدى إصدار منشور يعبر عن وجهة نظر الجمهوريين في قوانين كانت، وما زالت محلاً للآراء المتباينة على الساحتين الدولية والمحلية ، مما لا يعدو أن يكون مخالفة شكلية (أن كانت كذلك أصلاً) لا تتناسب عقوبة الإعدام جزاء لها. غير أن محكمة الاستئناف وفي محاولة متعجلة لربط الفعل بقناعتها المسبقة في ردة المحكوم عليهم انتهت إلى تأييد حكم الإعدام كعقوبة "شاملة" فيما أسمتها.

على أن الآثار المترتبة على حجب الإجراءات عن المحكمة العليا وحصرها في محكمة الاستئناف الجنائية اتخذت شكلها المأساوى حين تم تنفيذ حكم الإعدام على محمود محمد طه بإغفال تام لنص المادة 247 من قانون الإجراءات الجنائية رغم أنه كان من الثابت أن جاوز السبعين من عمره وقتئذ ولعلنا لا نتجنى على الحقيقة لو أننا قلنا أن تنفيذ الحكم ما كان ليتم لولا أن محكمة الاستئناف أضافت الإدانة بالردة وهو ما لم يكن ليصدر أصلاً فيما لو كانت الإجراءات قد عرضت على المحكمة العليا بدلاً من أن تستقل محكمة الاستئناف بإجراءات التأييد لتنتهى إلى ذلك الحكم من خلال المخالفات القانونية والدستورية التى تناولناها فيما تقدم.

هذا ما كان من أمر ما تم باسم القضاء، أما ما صدر من رئيس الجمهورية السابق عند التصديق على الأحكام فإن يكفى لوصفه أن نقرر أنه مجرد من أي سند في القوانين والأعراف ولا نرى سبباً للاستطراد فيه بأكثر من ذلك ما فيه من تغول على السلطات القضائية فقد كاد أن يعصف بها كلها من قبل على أنه ومن وجهة النظر القانونية البحتة، فإنه ولما كان من الجائز قانوناً للرئيس السابق أن يصدر قراره في تأييد حكم الإعدام دون إبداء سبب لذلك، فإن استرساله في الحديث على الوجه الذي كشف عنه البيان المعروف والمدون، لا يعدو أن يكون تزيداً لا أثر له في تقويم الحكم الذي تصدى لتأييده.

ولو كان لذلك البيان اثر يجدر ترتيبه عليه، فإنه إنما فيما تضمنه من عبارات ربما كانت هي الأسباب الحقيقة لتقديم محمود محمد طه ورفاقه للمحاكمة.ومذهب هيئة الإدعاء في هذا الشأن هو أن المحاكمة استهدفت محاكمة فكر الجمهوريين وتقييد حرياتهم السياسية والدينية وحصر نشاطهم إهداراً لحقوقهم الدستورية في كل ذلك.

وهذه المحكمة ، وإن كانت تجد أنه من العسير عليها تفسير ما هو  ثابت أمامها إلا في إطار ما ذهبت إليه هيئة الإدعاء إلا أنها وفي ذات الوقت ، لا ترى في ذلك ما يبيح لها إصدار قرار جازم في هذا المعنى خاصة وأن قرارات النائب العام في هذا الشأن تتجاوز صلاحياته كممثل قانوني للحكومة في صفتها المعنوية لتشمل مسائل تتعلق بها مسئوليات شخصية أخرى لا يمثلها النائب العام.

ولما كان الحكم الصادر في حق المدعين مشوباً بكل العيوب التي تم تفصيلها فيما تقدم، فإن إجراءات ما سميت بالاستتابة تكون قائمة على غير ما ضرورة قانونية وذلك فضلاً عن افتقارها لأي سند صريح أو  ضمنى من القانون. غير أنه يجمل أن نقرر من باب الاستطراد أن تلك الإجراءات وقعت بقهر بين للمحكوم عليهم نظراً إلى الظروف التي تمت فيها حيث لم يكن من المتصور نقلاً أن يمتنع المحكوم عليهم عن إعلان التوبة التى طلبت منهم وسيف الإعدام مشهور في وجوههم فكان في ذلك إقرار ضمنى بحكم الردة الذي صدر من وراء ظهورهم . وحيث أن ذلك الحكم قد وقع باطلاً على ما سبق تقريره فإنه يترتب على ذلك بداهة أن تكون التوبة التي صدرت بالإكراه خالية من أي معنى هي الأخرى.

وحيث أن المسائل التي أثارتها هذه الدعوى ما لم يكن من المتاح التصدى له في إطار قواعد الإجراءات السارية حالياً لا من خلال دعوى دستورية ودون أن يكون في ذلك ما يخل بمبدأ حجية الأحكام فيما تتوفر له شروط تطبيق ذلك المبدأ فإن هذه الدائرة تقرر وتأسيساً على ما تقدم بيانه أن الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية بالخرطوم في حق محمود محمد طه ورفاقه بتاريخ 15/1/1986 صدر بإهدار لحقوقهم التي كانت تكفلها لهم المواد 64 و 70 و71 من دستور السودان لسنة 1973 (الملغى).

أما ما ترتب على ذلك من أحكام بالإعدام ، فقد ألغيت في مواجهة جميع المحكوم عليهم فيما عدا والد المدعية الأولى.

ورغم ما شابتها من مخالفات للقانون والدستور، فقد أصبحت حقائق في ذمة التاريخ ، تقع المسئولية عنها سياسية في المقام الأول ، ولم يعد من الممكن استدراك كثير من النتائج التي ترتبت على كل ذلك (إلا ما بقى منها دون نفاذ) كما لم يعد من المتاح النظر إلى الوراء إلا لأغراض العظة والعبرة. فلم يعد من الميسور بعث حياة وئدت مهما بلغت جسامة الأخطاء التي أدت إلى ذلك ، تماماً كما أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل العثور على جثمان أخفى بترتيب دقيق. بيد أنه يبقى أمر جوهري هو أن للمدعيين حقاً في الحصول على إعلان بالحقائق المتعلقة بهذه المحاكمة التاريخية، وإن كان على ذلك الحق قيد فإنه إنما ينشأ عن طبيعة الإجراءات القضائية عموماً وما تقوم عليه، على وجه الخصوص في مثل هذه الدعوى، من شكل هو بدوره محدد في طبيعته وخصومه وما يصلح محلاً للتنفيذ في ضوء ذلك كله.

وعلى هدى من ذلك تقرر هذه الدائرة ما يلى:

1-    إعلان بطلان الحكم الصادر في حق المواطنين.

محمود محمد طه والمدعي الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف.

2-    إلزام المدعيين برسوم وأتعاب المحاماة في هذه الدعوى.

محمد ميرغنى مبروك                       زكى عبد الرحمن

رئيس القضاء                              قاضى المحكمة العليا

رئيس الدائرة الدستورية                    عضو الدائرة الدستورية

فاروق أحمد إبراهيم                        محمد حمزة الصديق

قاضى المحكمة العليا                        قاضى المحكمة العليا

عضو الدائرة الدستورية                     عضو الدائرة الدستورية

مذكرة برأي مخالف:

في أو حوالى أول مارس 1986 تقدمت المدعية الأولي أسماء محمود محمد طه بعريضة دعوى لحماية حقوق دستورية.

وقد حرر محاموها الأساتذة طه إبراهيم وعابدين إسماعيل وعبد الله الحسن ومحمود حاج الشيخ وجريس أسعد وبيتر نيوت كوك ، عريضة الدعوى في تفصيل اشتمل على الوقائع والمواد القانونية والمناقشات والحجج القانونية ، وذلك في ثماني وعشرين صفحة.

وبناء على أمر من المحكمة العليا ، تقدم المحامون بعريضة موجزة أفضل من الأولي في أو حوالى 18/3/1986 ، ومع ذلك اشتملت على نصف عدد صفحات العريضة الأولي تقريباً، بعد حذف لكثير من الحجج القانونية التي هي أقرب إلى المرافعات الختامية.

بيد أن جوهر العريضة الأصلية والعريضة الأفضل واحد، يقوم على إدعاء بإهدار حقوق دستورية لمحمود محمد طه لدى محاكمته، وهي حقوق كان من المفروض قانوناً أن يؤول بعضها للمدعية الأولى بحكم بنوتها للاستاذ محمود محمد طه ، الأمر الذي ينشئ لها مصلحة مباشرة لرفع هذا الطعن.

وتقوم العريضة الأفضل التي ضم إليها المدعى الثاني عبد اللطيف عمر حسب الله، على إدعاء باهدار حقوقه الدستورية لدى محاكمته مع محمود محمد طه وآخرين.

ويقول المحامون في صدر عريضتهم الأفضل:

(محاكمة الأستاذ محمود محمد طه والمدعى الثاني لم تكن غير دستورية وغير عادلة فحسب ، بل أنها دبرت في الواقع بواسطة الرئيس السابق ومستشاريه لاغتيال محمود محمد طه وتعمد مصادرة حقوق الجمهوريين الدستورية توطئة لتصفية وقهر كل خصوم النظام السياسيين، وذلك بالبحث عن سند تؤسس عليه تهمة ردة الجمهوريين ، تم اختيار وتنصيب قضاة يحاكمون الناس بهذه التهمة رغم أنها لم تكن وما كان يمكن أن تكون جريمة في ظل دستور 1973 والقوانين السارية بموجبه.

وظهر ذلك جلياً في مذكرة الرئيس السابق إلى مستشاريه بالقصر الجمهوري بتاريخ 29/1/1984 حيث جاء فيها :

"آخر هوس الأخوان الجمهوريين هذا المكتوب الذي أرى بين سطوره "الردة بعينها" ... سأجتمع بكم للتشاور في الأمر..".

في ديسمبر 1984 أطلق سراح الأستاذ محمود محمد طه وبقية الجمهوريين الذين كانوا رهن الاعتقال التحفظى ، وسلموا ماكينات طباعتهم ، وبعدها بأيام معدودة وزع الجمهوريين منشورهم الشهير المعنون : "هذا ... أو الطوفان" ينعون فيها على النظام أنه أصدر قوانين سبتمبر 1983 التي شوهت الإسلام وأذلت الشعب وأهانته ، وأنها لن تورث الشعب إلا الفتنة الدينية والحرب الأهلية وتهدد استقلال ووحدة وأمن السودان.

قبض على بعض الجمهوريين وهم يوزعون المنشور المذكور ، وأرسلت نسخة منه إلى القصر ، فإذا بأحد مستشاري القصر يكيف المنشور بأنه يستوفى متطلبات المكيدة التي كان يبحث لها عن سند، فيكتب للرئيس السابق مذكرة بتاريخ 29/12/1984 جاء فيها عن الجمهوريين أنهم: "بهذا فقد أتاحوا لنا فرصة تاريخية لمحاكمتهم .. وأنها بداية لمسيرة .. يتساقط دون هدفها كل مندس.." وقد علق الرئيس السابق على هذه المذكرة شاكراً الله أن أتيحت هذه الفرصة معبراً بذلك عن غبطة بالعثور على ما ينفذ المكيدة واستطرد محامو المدعيين شارحين وجهة نظرهم في المحاكمة التي قدم إليها المتهمان مع آخرين بقولهم:

(لم يضع المتآمرون بالقصر أي دقيقة من الوقت عقب اتفاقهم على صلاحية المنشور لتنفيذ المكيدة ، فصاعدا إذناً بالمحاكمة تحت المادة 147 إجراءات جنائية ، وأرسل الإذن لمحكمة الجنايات رقم 4 بأم درمان لتشرع فوراً في المحاكمة.

وقد ورد الإذن أن يقدم المتهمون للمحاكمة تحت المواد 27 (1) و 96 ط ك و 105 عقوبات والمادة 20 (1) أمن الدولة والمادة الثالثة من قانون أصول الأحكام القضائية لعام 1983.

بعد حوالي يومين من صدور الإذن بالمحاكمة انعقدت محكمة أم درمان رقم (4) ومثل أمامها الاستاذ محمود محمد طه والمدعى الثاني وبقية المتهمين وانحصرت إجراءات المحاكمة في سماع أقوال المتحرى وتقديمه لليومية التي حوت أقوال المتهمين ومنشور "هذا... أو الطوفان" ، ولم تقدم أية بينات أخرى أو شهود أو  مستندات.

في 8/1/1985 أدانت محكمة الجنايات رقم (4) بأم درمان جميع المتهمين دون تحديد الجريمة التي أدينوا فيها مهدرة بذلك نص المادة 227 إجراءات جنائية ، وأصدرت عليهم حكماً جاء منطوقه كالآتي:

"الإعدام شنقاً حتى الموت وأن يكون لهم الحق في التوبة والرجوع عن دعوتهم إلى ما قبل تنفيذ الحكم. وترفع الأوراق إلى محكمة الاستئناف للفحص والتأييد.

صدر الحكم المذكور تحت تأثير وإملاء عدة جهات لا صلة لها قانوناً بالمحكمة وتمثلت أحدى صور الإملاء في تواجد مذكرة بملف المحاكمة صادرة من جهة غير قاضى المحكمة وجاءت في شكل حيثيات تقترح أن يصدر الحكم مؤسساً على ما ورد فيها.

وبعد أن بين المحامون أسباب بطلان تعيين قاضى الجنايات الذي فصل في القضية وبطلان إجراءات المحاكمة وأسباب بطلان تعيين قضاة محكمة الاستئناف الجنائية وبطلان الإجراءات أمامها على نحو مفصل ودقيق، استطرد المحامون لتبيان أوجه المخالفات القانونية التي ارتكبتها محكمة الاستئناف ، ومن بعدها الرئيس السابق لدى ممارسته لسلطة التأييد تحت المواد 73 من دستور السودان 1973 و246 من قانون الإجراءات الجنائية 1983 ، ثم استطرد المحامون قائلين في صفحة 7 من عريضة الدعوى الأفضل:

(ولقد جاءت محاكمة الاستاذ محمود محمد طه والمدعي الثاني مفارقة لكل معنى للمحاكمة العادلة والتي يجب أن تتم وفق إجراءات القانون، ومن ثم فإنها وقعت باطلة لكل الحقوق التي نصت عليها المادة 64 من دستور 1973.

جاء حكم محكمة الاستئناف الجنائية بتأييد حكم الإعدام باطلاً بصدوره من محكمة غير مختصة تجاوزت وأهدرت إجراءات القانون ونصوصه وأحكامه ومن قضاة وقع تعيينهم باطلاً.

وعلى فرض أن محكمة الاستئناف الجنائية مختصة قانوناً بممارسة سلطة المحكمة العليا الواردة في المواد 234 و 246 و 247 إجراءات جنائية ، وفي إطار ما هو واقع مخول لها في الفحص والتأييد ، فإن محكمة الاستئناف الجنائية في واقع الأمر خرجت تماماً عن إطار هذه المواد، بل وعن إطار قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات وقانون الهيئة القضائية، وتمثل ذلك أساساً في صياغة تهمة جديدة وإجراء محاكمة عليها في غياب كافة أطراف المحاكمة من اتهام ومتهمين ودفاع.

أن محكمة الاستئناف الجنائية وهي تقرر تقويم حكم محكمة الجنايات كان ينبغى عليها أما أن تعيد الأوراق لمحكمة الجنايات على ضوء توجيهها أو أن تجرى المحاكمة أمامها، وفي الحالتين كان يجب أن يتم ذلك في إطار الإجراءات أعلاه، إلا أنها قامت وفي غياب المتهمين بوضع تهمة لم توجهها لهم محكمة الجنايات ثم قامت هي بالحلول محل الشاكى وجمعت بينات للاتهام عن التهمة وضعتها ثم سمعت هذه البينات في غياب المتهمين ثم قررت قبول تلك البينات ثم أسست عليها حكمها فأتت بذلك أبشع المنكرات في القانون..) واستطرد محامو المدعيين مبدين وجهة نظرهم في العقوبات الصادرة ضد المتهمين .."ص 10".

(لقد جاءت كل العقوبات التي أصدرتها محكمة الاستئناف الجنائية منقطعة الصلة بقانون العقوبات أو أي قانون آخر ، فضلاً عن عدم وجود جريمة أسمها الردة وعقوبتها الإعدام، فليس هناك عقوبات منصوص عليها في أي قانون يشمل ألا يصلى على المحكوم عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وأن تكون أمواله فيئاً للمسلمين.

ولعل أخطرهم مفارقة للقانون والدستور وردت في العقوبة الثالثة في اعتبار جماعة الجمهوريين طائفة كافرة ومرتدة وتعامل معاملة طوائف الكفر في كافة المعاملات.

وانتهى مقدمو العريضة بالمطالبة بما يلى:

أ- إعلان وتقرير بطلان محاكمة الأستاذ محمود محمد طه والمدعى الثاني وإلغاء كافة الأوامر حالتي صدرت بموجبها.

ب- الأمر بتسليم جثمان الأستاذ محمود محمد طه إلى المدعية الأولي واحتياطياً الأمر بإجراء تحقيق حول مصير الجثمان.

جـ- رسوم هذا الطعن.

د- أتعاب المحاماه.

هذه هي خلاصة الوقائع التي تشكل فيما يبدو لنا السبب القانوني المنشئ للدعوى التي يراد بها حماية حقوق دستورية للمدعيين وهي تماثل الوقائع التي أوردها المحامون في عريضة الدعوى الأصلية ، وأن كانت العريضة الأولي قد اشتملت بطبيعة الحال على تفاصيل أكثر وأشمل.

ولعله يجمل القول في هذا المقام ، أن الطلبات في العريضة الأصلية تماثل أيضاً الطلبات الواردة في عريضة الدعوى الأفضل ، وأن المدعية الأولي قررت في العريضة الأصلية بأنه:

(وحسب علمها ليس أمامها من سبيل آخر للتظلم لإزالة ما لحق بوالدها من تغول جسيم على حقوقه سوى رفع هذه الدعوى حيث أن المحاكمة التي أدت إلى إهدار تلك الحقوق، قد استنفذت كل إجراءات سلم الطعون القضائية وتأييد الحكم من الرئيس المخلوع ونفذ).

وجاء في عريضة الدعوى الأفضل (المدعيان يقرران بأنه وحسب علمهما ليس أمامها من سبيل آخر للتظلم لإزالة ما لحق بهما من تغول على حقوقهما سوى رفع هذه الدعوى باعتبار أن المحاكمة التي أهدرت هذه الحقوق قد استنفذت كل إجراءات سلم الطعون القضائية. ونرفق بهذه العريضة إقراراًً للمدعيين في هذا المعنى).

ولعله يتعين القول أيضاً أن المدعيين مع إقرارهما بأن لا سبيل للتظلم أو الطعن قانوناً في الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية إلا أنهما التمسا من هذه المحكمة العليا الأحتفاظ لهما بحقهما في المطالبة والمقاضاة بأي حقوق أخرى تنشأ لهما إذا ما أعلن بطلان المحاكمة ، وذلك تحت المادة 33 (3) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م ، وقد أجابتهما هذه المحكمة لطلبهما المذكور.

بعد سرد الوقائع يتعين علينا بادئ ذى بدء القول بأنه رغم أن وقائع هذه الدعوى الفريدة شديدة التعقيد، وتنطوى على جوانب سياسية وقانونية واجتماعية وعقائدية متشابكة إلى حد بعيد ، إلا أن التحصيل المطول للوقائع على النحو السالف سرده، يجعل من الميسور فيما نرى التحقق من السبب الذي تقوم عليه الدعوى ، إذا يبين بوضوح أن المدعيين يزعمان أن رئيس الجمهورية السابق قد تآمر مع مستشاريه القانونيين وقاضى جنايات رقم (1) بأم درمان وقضاة محكمة الاستئناف الجنائية في العاصمة القومية ، أو بعضهم على إزهاق روح محمود محمد طه.

وأن إطلاق سراحه في ديسمبر 1984 م ثم القبض عليه وإصدار إذن بمحاكمته أمام محكمة جنايات رقم (4) بالذات ، وعرض الأوراق 0للفحص والتأييد على محكمة الاستئناف الجنائية ، دون عرضها على المحكمة العليا ، وإجراءات المحاكمة في درجتى التقاضى وإنزال حكم القانون بالإدانة والعقوبة ، لا يعدو أن يكون ستاراً لاغتيال خصم سياسى تحت مظلة صورية للإجراءات القضائية وتطبيق حكم القانون.

وإذا كان ذلك هو ما يستنبط من خلاصة الوقائع ، فإن التساؤل الذي يثور لأول وهلة، هو  فيما إذا كانت هذه الدعوى في جوهرها ، دعوى جنائية موجهة لرئيس الجمهورية السابق والفاعلين الأصليين والشركاء معه ، يجب أقامتها أمام محكمة أول درجة مثل غيرها من مئات القضايا التي يتهم فيها الأفراد بارتكاب جريمة القتل أم هي دعوى لحماة حق أو حقوق دستورية أم هي دعوى أصلية تقدم للمحكمة المختصة لإعلان بطلان الحكم ، وإن كان نهائياً وذلك لرفع الغبن والظلم المترتب على الحكم الجائر؟

إن الادعاءات التي ساقها المدعيان بالنسبة للأخطاء الإجرائية والخطأ في تطبيق القانون الموضوعي بل الخطأ الذي شاب إجراءات التأييد والتنفيذ أيضاً موجهة أساساً لمحكمة أول درجة ومحكمة ثانى درجة ، أي ادعاءات بعدم عدالة المحاكمة والإخلال بحقوق الدفاع والاخلال أيضاً بضمانات الحقوق المقررة في القانون والدستور ، بل ادعاءات تنسب إلى القضاة الجهل والتحيز والكيد وقصد الانتقام.

ولما كان من الواضح أن قضاة المحكمتين والرئيس السابق وغيره ممن تنسب إليهم تلك الادعاءات ليسوا أطرافاً في هذه الدعوى ، فإنها تبدو على أنها مرفوعة على شخص غير ذى صفة، إذ ليس هناك خطأ أو فعل ضار منسوب للنائب العام حتى ترفع الدعوى ضده. أما أن هذه الدعوى ليست دعوى بعدم الدستورية ، حتى يقال بضرورة إعلان النائب العام باعتبار أن الحكومة صاحبة مصلحة عملاً بأحكام المادة 329 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م بل هي دعوى لحماية حق دستوري ، ومن ثم فإنه يتعين أن تبين العريضة الوقائع التي تفصح عن سبب للدعوى في معنى المادة 36 ، وذلك فضلاً عن بيان الحق المدعى إهداره والوقائع التي أدت إلى ذلك الإهدار (م325).

إن الدعوى لحماية حق دستوري كالدعوى لحماية حق عادى تتطلب توافر شروط عدة لنشوئها هي:

1-    وجود حق أو مركز قانوني.

2-    اعتداء يحرم صاحبه من منافع الحق أو المركز القانوني بحيث يحتاج إلى حماية القضاء.

3-    الصفة، أي أن يكون المدعي أو الخصم هو صاحب الحق أو المركز القانوني محل الاعتداء من جانب المدعى عليه أي الخصم الآخر.

وسواء كانت الدعوى عنصراً من عناصر الحق الموضوعي أو جزءاً لا يتجزأ من الحق أو المركز القانوني ، كما يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء ، أو كانت حقاً منفصلاً من الحق الموضوعي كما يذهب بعض آخر ، فإنه لكى ينجح المدعي في دعواه ، يجب عليه أن يبين في عريضته أن له حقاً أو مركزاً قانونياً أو مصلحة يحميها القانون أو يستأثر بها دون غيره من الناس، وأنه قد تم الاعتداء على ذلك من جانب الغير دون مبرر قانوني أو عذر شرعي وأن لرافع الدعوى صفة لطلب الحماية القضائية أي إصدار حكم يرفع الظلم عنه، في مواجهة شخص أو أشخاص آخرين هم بالضرورة طرف في الدعوى أو الخصومة القضائية.

وسواء صح في القانون والفقه اعتبار القضاة أطرافاً في الخصومة أم مجرد موظفين عموميين يناط بهم الفصل فيها على الوجه الذي يحدده القانون فإن عدم ضم القضاة لهذه الدعوى ، يحول دون الاعتداد بإقرار النائب العام بأن المحاكمة كانت غير عادلة أو أنها كانت إجهاضاً للعدالة والقانون ، وذلك أنه حتى إذا افترضنا أن من الجائز رفع الدعوى في مواجهة النائب العام، فإنه لا يعتبر طرفاً أصيلاً في الدعوى ، إذ أن الوقائع لا تنشئ سبباً للدعوى في مواجهته ، ولأن قرار النائب العام ليس له حجية إلا في مواجهته وحده لذلك يتعذر القول بأن الادعاءات التي سبق سردها منسوبة للقضاة أو غيرهم ممن ليسوا طرفاً في هذه الدعوى، يمكن أن يحمل عليها حكم ملزم أو حكم تقريري، لمجرد أن أحد الخصوم قد صدر من إقرار على وجه أو آخر.

وبعبارة أخرى أن عدم توافر شروط الدعوى لحماية حقوق دستورية يوجب الحكم بعدم قبولها ولا التصدى لاصدار أمر فيها ، ولو بالنسبة لمثل ذلك الإقرار الصادر من النائب العام.

وإذا كانت دعوى حماية الحق الدستوري غير مقبولة لما تقدم ذكره من أسباب ، فهل يجوز رفع دعوى لإبطال الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية وحكم قاضى أول درجة؟

من المسلم به أن الحكم يعتبر عملاً قانونياً يخضع لمقتضيات معينة، ويجب أن تسبقه أعمال إجرائية أخرى يلزم أن تكون صحيحة ، علماً بأن الإجراءات عبارة عن أعمال مركبة متتابعة هي التي تؤدى إلى الحكم فإن حدث أن شاب الحكم خطأ في الإجراء ، فإن هذا الخطأ يمكن أن يؤدي إلى بطلان الحكم.

ولما كان الحكم عملاً إجرائياً في خصومة قضائية ، فإنه يخضع عادة للإبطال بموجب الطرق المقررة التي يحددها القانون.

ولذلك متى نص القانون، سواء كان قانون الإجراءات المدنية أو الجنائية أو قانون الهيئة القضائية أن تستأنف أحكام وقرارات المحاكم الجنائية المكونة بموجب المادة 16 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1984م (30/9/1984)  أمام محكمة الاستئناف التي يحددها قرار التكوين ويحدد إجراءاتها، وقد حدد قرار التكوين الإجراءات الواجب اتباعها ، مما مؤداه أن تكون أحكامها أحكاماً نهائية، غير قابلة للطعن بالنقض أمام المحكمة العليا وهو أمر مقر به من جانب المدعيين لذلك فإنه لا يجوز الطعن في ذلك الحكم بطريق مباشر أو غير مباشر ، بمثل محاولة اللجؤ إلى رفع دعوى لحماية حق دستوري.

فلقد نشأت قاعدة أساسية قديمة مؤداها بأنه لا دعاوى بطلان ضد الأحكام أي أنه لا يجوز رفع دعوى مبتدأة بطلب بطلان حكم نهائي.

بيد أن بعض الفقهاء في العصر الحديث يذهبون منحى آخر في نطاق قانون القضاء المدني ، إذ يقولون:

(على أن سريان هذه القاعدة على إطلاقها يؤدي بالنسبة للأحكام التي تجوز حجية الأمر المقضى إلى نتيجة غير مقبولة).

فهذه الحجية تعمل على استقرار المراكز القانونية على نحو معين ومن غير المقبول أن تستقر هذه المراكز نتيجة لحماية منها حكم شابه عيب من الجسامة بحيث يجعل ما ورد من تقرير قضائي غير جدير بالاحترام الواجب للتقريرات القضائية إذ يكون الحكم عندئذ غير صالح لأداء وظيفته. ولهذا من المقرر أنه حيث يوجد مثل هذا العيب ، فمن المصلحة إهدار حجة الحكم وذلك برفع دعوى ببطلانه على أنه يلاحظ أنه إذ يتعلق الأمر بدعوى بطلان الحكم كعمل قانوني ، فإن العيب الذي يبرر رفع هذه الدعوى هو دائماً خطأ في الإجراء.

فالخطأ في التقدير مهما كانت جسامته لا يؤدى إلى بطلان الحكم وبالتالي لا يجيز رفع دعوى ببطلانه.

(أنظر ، الوسيط في قانون القضاء المدنى – الدكتور فتحى والى دار النهضة العربية – الطبعة الثانية – ص733).

واستطرد الفقيه المصري العالم معدداً الحالات التي يمكن فيها على سبيل الاستثناء رفع دعوى بطلان ضد الحكم ، على هدى من اجتهاد الفقه والقضاء أو شخص عين قاضياً بغير الطريقة التي ينص عليها القانون أو صدور حكم من هيئة خولف فيها التكوين العددي للدائرة أو صدور حكم من قاضى يقوم به سبب من أسباب عدم الصلاحية (نفس المرجع 735).

ولما كان يذكره الدكتور فتحى والى من إمكانية رفع دعوى بطلان مبتدأة في نطاق القانون المدني أو الإجراءات المدنية محل بحثه من صدور ضده حكم جنائي إقامة دعوى مبتدأة لتقرير بطلان الحكم، حتى بعد أن يسد أمامه طريق الطعن أما محكمة أعلى، إلا أن التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن ، لأول وهلة، هو : إلى من ترفع الدعوى؟ هل ترفع لمحكمة أول درجة أم ترفع مباشرة إلى المحكمة؟

وسواء رفعت أمام محكمة أو درجة أو المحكمة العليا فمن يكون أطراف الدعوى؟

هل هم القضاة أم النائب العام أم أطراف الإجراءات الجنائية بما في ذلك الشاكي أم عليهم مجتمعين؟.

وقبل الإجابة على ذلك ، يثور تساؤل أكثر إلحاحا، هو هل يمكن اللجوء إلى تحريك الإجراءات الجنائية في مواجهة القضاة وغيرهم لإدانتهم بارتكاب جريمة جنائية ، مما مؤداه براءة ساحة المحكوم عليه من قبل على خلاف ما قضى به حكم نهائي؟

أن ما يدعو إلى هذا التساؤل هو ما جاء بعريضة الدعوى بما يقرع الآذان ويستفز الوجدان.

ذلك أن تصوير المدعيين للوقائع على النحو السالف سرده بإيجاز ، يكاد ينطق بما لا مزيد عليه من البيان أن الاتهام الأساسي هو الاتهام بالقتل أو الاغتيال في مواجهة أشخاص معينين من بينهم السلطان والقاضى والمستشار.

ومرة أخرى يثور التساؤل أشد إلحاحاً وإحراجاً ، هل يجوز رفع دعوى جنائية ضد القاضى الذي أصدر الحكم وهو يؤدى وظيفته كقاضي.

وفي أي الحالات يجوز تحريك الإجراءات الجنائية ضده؟

لا شك أن القاضى كبشر ليس معصوماً من الخطأ ، فإن أخطأ في الإجراء أو في التقدير، الخطأ العادي المألوف فإن القانون يصوبه عن طريق الطعن إلى محكمة استئنافية أو عليا أي إلى محكمة أو محكمتين أعلى درجة وفق ما هو معروف ومألوف ومقرر في كل النظم القانونية الحديثة في العالم وعلى ما سبق ذكره مراراً وتكراراً .

ومع ذلك فإن القاضى كبشر ليس معصوماً من الخطأ الإرادي أي العمدي الاختياري إلى حد ارتكاب إحدى الجرائم أو ويكون بطوعه وإرادته أداة طيعة في يد سلطان قاهر أو حاكم جائر.

وصفحات التاريخ الإنجليزي مملوءة في القرنين السادس عشر والسابع عشر بحوادث اغتيال الملوك لخصومهم السياسيين تحت ستار المحاكمات أمام المحاكم الدينية أو الوضعية بل أن التاريخ المعاصر شاهد على ميل بعض الملوك ورؤساء الدول في بعض الأقطار، إلى تصفية خصومهم السياسيين تصفية بدنية وإلى ممارسة الاعتقال التحفظى كسلاح قاتل أو  مسبب للجنون أو المرض المزمن.

وأن ندرة توجيه الاتهام لرئيس الجمهورية أو للقضاة ، وصعوبة ومشقة الوفاء بعبء الاثبات وهو عبء عسير إلى حد بعيد ، ودقيق غاية الدقة لا يعنى عدم جواز الاتهام وموالاة السير فيه، والذي يدفع عادة من جانب القضاة بالحصانات القضائية وغيرها من الحصانات والدفوع القانونية الأخرى وفقاً للوقائع والأدلة التي تعرض أمام المحكمة الجنائية المختصة.

وأن تباين آراء الفقهاء والدارسين في تفسير المادة 45 من قانون العقوبات لسنة 1983م التى تنص على أنه (فيما عدا حالات القتل الخطأ لا جريمة فيما يقع من الشخص عند مباشرته أعمالاً قضائية بصفته محكمة أو كعضو في محكمة مستعملاً أية سلطة يخولها أياه) فيما يتعلق بأن تكون حصانة القاضى مطلقة أو مقيدة إلى أبعد الحدود وتباين الآراء الداعية إلى ضرورة تقرير حصانة مطلقة للقضاة لدى مباشرة الإجراءات القضائية لكى لا يخشوا على أنفسهم في حالة ارتكاب الخطأ، وحتى يطمئن ضمير القاضى أنه ليس هناك سيف مسلط على رقبته لدى إصدار حكم يبين فيما بعد أنه مخالف للقانون أو منطو على الظلم والجور، قد لا يصلح سبباً للقول بعدم جواز اتهام القاضى بارتكاب جريمة القتل أو النهب أو الغش أو التدليس أو التزوير.

وإن كانت قوانين الهيئة القضائية المتعاقبة قد تواترت على تنظيم أحكام محاسبة القضاة، إلى حد عزلهم من الخدمة، فإن ذلك يدل على أن من الجائز أن يرتكب القاضى تحت ستار من وظيفته فعلاً يجعله عرضة للمساءلة الإدارية والجنائية أيضاً.

وإذا كان من الظاهر وفق ما تقدم أن من الجائز لمقدمى الطلب تحريك الإجراءات الجنائية ضد من يوجه إليهم الاتهام أمام محكمة أول درجة، فإننا نرى أن من الجائز أن يكون لمقدمي الطلب الحق في رفع دعوى مبتدأة أمام محكمة أول درجة ، وليس أمام المحكمة العليا.

وبناء على كل ما تقدم يتعين القول بأن العريضة المقدمة لا تشمل على مسألة صالحة للفصل فيها أمام المحكمة العليا في معنى البند (ب) من المادة 327 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م وأنها لا توضح سبباً للدعوى في معنى المواد 38 (2) (ب) و 325 و 327 ، ومن ثم يتعين إصدار أمر بعدم قبول الدعوى وإلزام المدعيين بالرسوم.

"هنرى رياض سكلا"                                 "حنفى إبراهيم أحمد"

قاضى المحكمة العليا                                  قاضى المحكمة العليا

عضو الدائرة الدستورية                             عضو الدائرة الدستورية

أنه وبتاريخ 25 فبراير 1985م تقدمت هيئة الإدعاء المكونة من الأساتذة طه إبراهيم ، عابدين إسماعيل ، عبدالله الحسن ، محمود حاج الشيخ ، جريس أسعد ، ود. بيتر كوك المحامين بعريضة طعن دستوري نيابة عن المدعين تطلب فيها إعلان بطلان إجراءات محاكمة كل من محمود محمد طه والد المدعية ، وعبد اللطيف عمر حسب الله (المدعى الثاني) تلك المحاكمة التي انتهت بالحكم على الأول بالإعدام وتنفيذه ولأنها أدت إلى إهدار حقوقها الدستورية المنصوص عليها في الدستور الملغى لسنة 1973م والدستور المؤقت لسنة 1985م واللذان أكدا وأمنا على تلك الحقوق استناداً على ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولقد تضمنت صحيفة الطعن في صدرها سرداً كاملاً للأحداث والملابسات التي سبقت إجراءات القبض والمحاكمة وذلك من واقع بعض المستندات المرفقة بأوراق الدعوى لتدلل هيئة الادعاء على أن الرئيس السابق وآخرين كانوا قد بيتوا النية على اغتيال والد المدعية الأولي وهي أحداث يتعلق جانب منها بالفكر الإنساني بينما يتعلق الجانب الآخر بمسائل سياسية بحتة ومن ثم لا نرى لأغراض الفصل في هذا الطعن ما يستوجب التطرق إليها على وجه منفصل إذ أن الطعن الدستوري ينصب في مجمله على مسألتين أساسيتين ، أولهما عدم صحة القرار الذي تم بمقتضاه تعيين قضاة محكمتى الموضوع والاستئناف واغفال سلطة المحكمة العليا في تأييد الحكم وبالتالي بطلان إجراءات المحاكمة برمتها، وثانيهما مدى انتقاص تلك الإجراءات مهما كان وجه الرأي في المسألة الأول لحقوق المتهم في أن ينال محاكمة عادلة وفق إجراءات القانون.

وأما بالنسبة لأوجه الطعن في المسألة الأولي لقد أنصب في الآتي:

وذلك بالنسبة لتشكيل محكمة الموضوع ومحكمة الاستئناف التي أيدت الحكم:

1-   أن تعيين قاضى الموضوع كان باطلاً لعدم استيفائه لشروط المواد من 20 إلى 29 شاملة من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ بما يترتب عليها بطلان الحكم الصادر منه وذلك لأن المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وإن كانت تجيز لرئيس  الجمهورية السابق سلطة تكوين محاكم جنائية إلا أنها حجبت عنه سلطة تعيين القضاة الجالسين بها.

2-   أن تكوين محكمة الاستئناف الجنائية بواسطة رئيس الجمهورية السابق كان إجراء غير قانوني وباطل إذ قصرت المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ سلطاته في تكوين المحاكم الجنائية دون محكمة الاستئناف ، التي تستمد صحة تكوينها من المادة 16 من ذلك القانون.

3-   أن تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية من ثلاثة قضاة كان يتعارض وصريح نص المادة 11 (هـ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ والتي تنص على أن يباشر اختصاص محكمة الاستئناف قاضى فرد الحكم الصادر منها.

4-   أنه يترتب على تكوين وتشكيل محكمة الاستئناف على النحو السابق بيانه بطلان الحكم الصادر منها.

5-   أن محكمة الاستئناف التي كونها رئيس الجمهورية السابق وعين قضاتها بقرار جمهوري لم تكن مختصة بسلطة تأييد أحكام الإعدام وإنما كان الاختصاص بذلك ينعقد للمحكمة العليا وحدها عملاً بنص المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م حيث لا يرقى ذلك القرار إلى مرتبة التشريع من جانب كما وليست له قوة إلغاء سلطات المحكمة العليا من جانب آخر وبذلك فإن ما أسبغه من اختصاص على محكمة الاستئناف لا يحدد النصوص الواردة في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية لسنة 1983م من قوة إلزاميتها أو يحول دون وجوب تطبيقها.

في ما يتعلق بمحكمة الموضوع فقد تم تكوين محاكم جنائية للعاصمة القومية بمقتضى القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ وكانت محكمة الجنايات رقم 4 بأم درمان ضمن هذه المحاكم وتم تعيين القاضى (سابقاً) حسن إبراهيم المهلاوي قاضياً لها وذلك في اليوم الخامس من شهر محرم سنة 1405هـ الموافق اليوم الثلاثون من شهر سبتمبر لسنة 1984م وبالرجوع للقرار الجمهوري نجده استند للمادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وباستقراء للمادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ نجدها تنص على الآتي:

يكون لرئيس الجمهورية محاكم جنائية في العاصمة القومية للفصل في المنازعات والقضايا ذا الطبيعة الجنائية ولممارسة كل الاختصاصات الممنوحة لقاضى المديرية أو القاضى الجزئي بموجب قانون الاجراءات الجنائية وأي اختصاصات أخرى ممنوحة للقاضى بموجب أي قانون عقابى سارٍ.

ثم أعقبت الفقرة (أ) من المادة 16 الفقرات (ب) و (ج) و (د) فأعملت الفقرة (ب) السلطة التي يمارسها رئيس الجمهورية في العاصمة القومية لتكوين تلك المحاكم لرئيس القضاء وذلك بالنسبة للأقاليم ثم جاءت الفقرة (ج) ناصة على الآتي :

يراعي بقدر الإمكان أن يكون قضاة المحكمة الجنائية في العاصمة القومية والأقاليم قضاة بالمحكمة العليا أو محكمة الاستئناف أو قضاة مديرية.

لقد وردت الفقرة الأولي من المادة 16 مطلقة بالنسبة لصلاحية رئيس الجمهورية في تكوين محاكم الجنايات بالعاصمة القومية وهذا التكوين المشار إليه هو التكوين الذي يجب أن يراعي ما تضمنته الفقرات (ج) و (د) اللهم إلا إذا قلنا أن التكوين المراد هو قيام أوعية فارغة وهياكل دون مضامين.

أن القول بورود المادة 16 (أ) مقيدة بحيث أنها تحجب سلطة تعيين القضاة الجالسين بتلك المحاكم والإدعاء بعدم مراعاة المواد 20 إلى 29 شاملة من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ قول مردود ولا يسنده القانون أن المواد 20 إلى 29 شاملة هي المواد المتعلقة بتعيين القضاة في الدرجات القضائية المختلفة والشروط التي يجب أن تتوفر في من يولى وظيفة القضاء ثم جاءت المادة 30 من ذات القانون وجعلت قرارات التعيين نهائية ولا يجوز الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن أو  أمام جهة قضائية بما في ذلك التعيينات الاستثنائية المضمنة في المادة 29 (أ) من ذات القانون ومؤدى ذلك أنه حتى إذا كان هنالك خلل في التعيين طبقاً للشروط المنصوص عليها فإن المادة 29 (أ) المتعلقة بالتعيينات الاستثنائية مقروءة مع المادة 30 تجعل التعيين باتاً بالرغم مما شابه من خلل.

وأما بالنسبة لتكوين محكمة الاستئناف الجنائية بواسطة رئيس الجمهورية السابق، فإن تكوين المحكمة قد تم بمقتضى القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ الذي تم بمقتضاه تشكيل المحاكم الجنائية بالعاصمة القومية ومن ضمنها المحكمة رقم (4) التي تولت محاكمة الأخوان الجمهوريين.

وعليه فإن سند تكوين المحكمة وأن كان في ظاهره يستند للمادة 16 (أ) لكونه وارداً ضمن تكوين محاكم الجنايات التي تكون بمقتضى تلك المادة إلا أنه يمكن تبنى المادة 18 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ وذلك لإضفاء الشرعية على تكوين محكمة الاستئناف الجنائية بالعاصمة القومية حيث نصت المادة 18 المشار إليها على الآتي :

"تستأنف أحكام وقرارات المحاكم الجنائية المكونة بموجب المادة 16 من هذا القانون أمام محكمة الاستئناف التي يحددها قرار التكوين ويحدد إجراءاتها".

أن ما جاء بشأن تكوين محكمة الاستئناف الجنائية وتحديد إجراءاتها في ذلك القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ يشكل تطبيقاً للمادة 18 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405هـ.

وفيما يتعلق بمعارضة تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية من ثلاثة قضاة على خلاف ما جاء بالمادة 11/هـ نقول أن المادة 18 وردت مطلقة ولم يرد عليها القيد الذي ضمن الفقرة "د" من المادة 16 لنذهب هذا المذهب ومن ثم فلا تعقيب على ما ارتآه رئيس الجمهورية السابق عن تعدد قضاة محكمة الاستئناف الجنائية.

وأما بالنسبة لسلطة التأييد المنصوص عليها في المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م أننا نتفق مع السادة محامى الإدعاء في أن الاختصاص منعقد للمحكمة العليا بصفة أصلية إلا أن القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ جاء لاحقاً لقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1981م وبأعمال قواعد التفسير للقوانين فإن اللاحق يمكن أن ينسخ أو يقيد أو يخصص ما سبقه من قوانين ونختلف مع السادة محاميى الادعاء في ما ذهبوا إليه عن عدم بلوغ القرار الجمهوري لمرتبة التشريعات حيث كان رئيس الجمهورية السابق يباشر هذه الصلاحيات كجهة تشريعية بجانب السلطة التشريعية التي كانت قائمة آنذاك.

تنص المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م على الآتي:

"يجب أن يعرض كل حكم بالإعدام للمحكمة العليا للتأييد".

وجاءت المادة 3/ز من الأمر الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ على النحو التالي:

"تتولى محكمة الاستئناف التوصية لرئيس الجمهورية بشأن أحكام الإعدام والرجم قبل رفعها للتأييد".

لقد كان الإجراء قبل القرار الجمهوري 35 / 1405هـ هو ما تضمنه التشريع رقم 52 لسنة 1984م الذى تم بمقتضاه تكوين محكمة استئناف العدالة الناجزة وتحديد اختصاصها وإجراءاتها وقد أضفت المادة 9 من القانون المشار إليه الصلاحيات والسلطات المحددة لمحكمتي الاستئناف والمحكمة العليا عند ممارستها لسلطاتها في قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م لمحكمة استئناف العدالة الناجزة وذلك بصورة عامة ثم جاءت المادة 3/ ب  تنص على الآتي:

"النظر في الأحكام الصادرة من محاكم العدالة الناجزة بالإعدام أو الرجم والتوصية بشأنها قبل رفعها للتأييد".

فإذا ما قلنا أن المادة 3/ ز حلت محل المادة 3/ ب والتي تخصص النص العام المضمن في المادة 9 من التشريع رقم 52 لسنة 1984م نجد أيضاً أن المادة 3/ د من الأمر الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ تضمن نصاً عاماً وأوسع إطلاقاً من نص المادة 9 حيث جاءت الفقرة (د) من الأمر الجمهوري رقم 35/ 1405هـ على النحو الآتي:

"يكون لمحكمة الاستئناف جميع السلطات الممنوحة للسلطات الاستثنائية بموجب قانون الإجراءات الجنائية".

ومعلوم أن السلطات الاستثنائية المقصود منها التدرج الهرمي من القاعدة للقمة المتمثلة في المحكمة العليا.

أردت بايراد ما سلف من إجراءات الإشارة لمحكمة استئناف العدالة الناجزة إبراز نشؤ المحكمة والأطوار التي مرت بها لأن ممارستها منذ أن كانت محكمة استئناف عدالة ناجزة هي نفس ممارستها عندما تحولت لمحكمة استئناف تنظر في أحكام المحاكم الجنائية التي شكلت بموجب الأمر الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ مع تغيير التسمية فقط. ولعلنا نجد من يقول أن محكمة الاستئناف الجنائية المنشأة بمقتضى القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ لا تخرج عن كونها امتداداً لمحكمة استئناف العدالة الناجزة خاصة وأن القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ لم يتضمن نصاً بإلغاء التشريع رقم 52 لسنة 1984م بحيث يتسنى لنا القول بأعمال القواعد العامة في تفسير القوانين والتي تقضى بقيام النصوص السابقة التي لم تمسها القوانين اللاحقة بالإلغاء أو النسخ أو التخصيص أو التنفيذ.

لقد كانت المحكمة العليا تمارس اختصاصها في الإطلاع على أحكام الإعدام بغرض التيقن من سلامة الإجراءات ثم التوصية عن كيفية تنفيذ الحكم إلى أن صدر التشريع رقم 52 لسنة 1984م الذي أنشأ قناة جديدة بشأن مآل الأحكام الصادرة بالإعدام والتي تمثلت في محكمة استئناف العدالة الناجزة ثم أعقب التشريع 52 لسنة 1984م القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ الذي أبقى على هذه القناة الاستثنائية بعد أن تغيرت التسمية فأصبحت "محكمة الاستئناف الجنائية" ومن ثم باشرت المحكمة صلاحيتها بمقتضى المادة (3/ د) و( ز) .

ولما كانت الخطوة الأخيرة التي تمارسها المحكمة العليا بشأن تأييد أحكام الاعدام هي التوصية ورفع الأوراق لرئيس الجمهورية للتأييد فإن إضفاء هذه الاختصاصات لمحكمة خاصة أنشئت لاحقاً لقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م يعنى بالضرورة إخراج هذا الإجراء من القناة العادية المضمنة في المادة 234 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م.

وأما ما ذهب إليه السادة محامو الإدعاء في مرافعتهم الختامية عن اختيار الرئيس المخلوع لمحكمة الاستئناف الجنائية لتقديم التوصية بشأن أحكام الإعدام والرجم كجهة استشارية فقط، فهذا المذهب يقودنا إلى القول بفصل النتيجة عن مقدماتها التي تسندها وذلك لأن التوصية، وهي الخطوة الأخيرة في إجراءات التأييد، تقوم على إجراءات الدعوى الجنائية منذ مرحلة التحري وحتى صدور حكم الموضوع وكنتيجة نهائية مترتبة على هذه الإجراءات ومرتبطة بها ارتباطاً عضوياً. كما يقودنا هذا المذهب إلى القول بأن النتيجة التي تتوصل إليها المحكمة العليا في ما يتعلق بأحكام الإعدام والرجم تكون معلقة على شرط واقف وهو وجوب اتساق هذه النتيجة مع التوصية التي تصدر من محكمة الاستئناف الجنائية ومؤدى ذلك هو خضوع محكمة أعلى لمحكمة أدنى في ما تصدرها ممن قرارات وأحكام؟!

لقد تضمنت المرافعة الختامية للإدعاء في الفقرة ثانياً 2 ما يستفاد منه التراجع عن الادعاء بانتهاك الحقوق الدستورية للمدعيين التي ادعاهها محامو الإدعاء في عريضتهم الأولي المعدلة وانحسار الإدعاء في "مدى انعكاس الخلل في إصدار القانون، التشريع الفرعي، وعلى إجراءات المحاكمة موضوع الطعن الخ.."

لقد تابعنا التكئة القانونية التي استند عليها رئيس الجمهورية السابق في إصدار القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ ومشتملاته ولم نجد ما يمكن أن نستخلص منه خللاً قانونياً ، وذلك في حدود تكوين محكمة الموضوع ومحكمة الاستئناف وصلاحيات محكمة الاستئناف باعتبارها المحكمة المؤيدة للحكم والتي تصدر التوصية النهائية لرئيس الجمهورية وهي التوصية التي كانت تمارسها في ما مضى المحكمة العليا على النحو الذي فصلناه أعلاه. وذلك كله تمشياً مع الحد الذي انحسرت إليه ادعاءات محاميي الإدعاء. ناهيك عن مخالفة الدستور والتي هي المدخل للمحكمة الدستورية وأساس اختصاصها في التعرض للدعوى.

وعليه أرى أن ما جاء في عريضة المدعيين من خلل في إصدار الأمر الجمهوري رقم 35 لسنة 1405هـ ، طباقاً لما انحسر إليه الإدعاء في المرافعة الختامية ، ومدى انعكاس هذا الخلل على إجراءات المحاكمة أمر غير ثابت من خلال الاستعراض الذي تم أعلاه  ونقول أنه حتى في حالة حدوث خلل فإنه من  غير الميسور التعرض له ما لم يرتق لمخالفة دستورية محددة تتوفر لها الشروط الشكلية المطلوبة لقبول الدعوى الدستورية. ولقد رأينا أن الإدعاء انحسر بادعائه في مرافعته الختامية إلى حد  التمسك بانعكاسات الخل ، إذا ما وجد ، على المحاكمة دون التمسك بعد الدستورية التي أبديت في المراحل الأولى من إجراءات نظر الدعوى.

وعليه أرى أن ما يدعيه السادة محامو الإدعاء أمر خارج عن اختصاص هذه المحكمة ، وذلك في حالة ثبوت هذه الادعاءات ، ومن ثم أرى أن الدعوى لا تشتمل على مسألة صالحة للفصل فيها ويتعين رفضها أعمالاً لنص المادة 327 (1) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.

وأما بالنسبة للمسألة الثانية المتعلقة بمدى انتقاض تلك الإجراءات لحقوق المتهم في أن ينال محاكمة عادلة وفق إجراءات القانون والصفة التي يمكن أن تضفى على تلك المحاكمة وما جاء من قرارات في الرد على عريضة المدعيين من قبل النائب العام فهذه أمور تنصرف مباشرة على ما كان سائداً من أوضاع سياسية بمعانيها وصورها الواسعة المشتملة على الجهات التشريعية التي كانت تقوم بأمر إصدار تلك التشريعات وتقدير مقتضياتها وغاياتها ، سواء أكانت تلك الغايات غايات عامة مجردة يقصد منها منفعة المجتمع عموماً أو غايات خاصة تتعلق بتثبيت تلك الأوضاع السياسية ومحاربة خصومها، وهي التشريعات التي أضفت على تلك المحاكم وإجراءاتها الشرعية وكانت المظلة الواقية لها. وأن هذه المحكمة تأخذ علماً قضائياً بما هو مطروح الآن في الساحة السياسية العريضة وما هو مطروح أمام محاكم أمن الدولة من دعاوى تتعلق بشرعية تلك الجهات وشرعية ممارستها التشريعية والتنفيذية وتمسك في هذه المرحلة عن وصف تلك الممارسات ولعل الليالي الحبالى يلدن ما يمكن أن يضفى وصفاً أو أوصافاً لتلك الممارسات ومآل المسئولية عنها.

وعليه أرى رفض إدعاءات المدعيين التي تضمنتها عريضة الإدعاء المعدلة والتي حددتها بصفة نهائية العريضة المتضمنة على المرافعة الختامية للإدعاء.

"محمد عبد الرحيم على"

قاضى المحكمة العليا

عضو الدائرة الدستورية

صدر تحت توقيعنا في هذا اليوم السادس عشر من شهر ربيع الأول 1407هـ الموافق اليوم الثامن عشر من شهر نوفمبر 1986م.

  

  إشترك في القائمة البريدية

  إبحث في الموقع