استئناف محاكم خاصة
حكومة السودان ضد/علي أبو عنجة الموت وآخرين
م ت /ق/ أ/ س م خ/ 147/خ92
المبادئ:
قانون جنائي – المادة 55 من القانون الجنائي 1991م شروط تطبيقها.
قانون المحاماه – أخلاقيات المهنة – رفض المحامي الدفاع بسبب طبيعة الجريمة أو اختلاف الرأي أو المذهب السياسي أو الدين أو العقيدة ليس من أخلاقيات المهنة.
قانون جنائي – التحريض المعاقب عليه قانوناً – كيفية حدوثه.
قانون جنائي – التحريض – معناه القانوني – تقصير الشخص الملزم قانوناً بنفي الفعل أو الاعتراض عليه – عدم اعتباره تحريضاً.
قانون جنائي – التحريض بالإشارة أو التلميح – وجوب ارتباطه بالفعل موضوع التحريض .
إن المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م تحرم نشر المعلومات السرية التي لا تعلمها إلا الجهات الرسمية وليست المعلومات التي يتناقلها الناس كأمر عادي.
1- من واجب المحامي أن يكون دائماً على استعداد لمساعدة ومعاونة كل من يطلب مساعدته ، ومن أخلاقيات مهنة المحاماة ألا يرفض المحامي الدفاع عن أي شخص بسبب طبيعة الجريمة التي ارتكبها أو بسبب اختلاف الرأي أو المذهب السياسي أو بسبب اختلاف الدين أو العقيدة.
2- إن التحريض الذي يعاقب عليه القانون يكون بإغراء شخص لارتكاب جريمة أو أمره بارتكابها وقد يكون بالمساعدة أو التشجيع أو الدفع وقد يكون في صورة هدية أو وعد أو وعيد أو مخادعة أو دسيسة وعلى العموم كل ما يهيج شعور الفاعل ويدفعه إلى ارتكاب الجريمة.
3- إن التحريض الذي يقصده القانون بالإغراء أو الأمر هو الذي يسبق الفعل ولا يفسر تقصير الشخص حتى إذا كان ملزماً قانوناً بنفي الفعل أو الاعتراض عليه ، بأنه حرض على ارتكابه إذا لم ينفه أو يحتويه لأن النفي أو الاعتراض أمر لاحق للفعل المحرض عليه.
4- لا تكفي أي إشارة أو تلميح لإثبات جريمة التحريض ولكن يجب أن تكون الإشارة أو التلميح مرتبطاً بالفعل موضوع التحريض.
الحكم:
المحامون:
1/ النائب العام عن الاتهام
2/ عمار شاويش محمد عن المتهم الأول والثاني
3/ فتح الرحمن أحمد حسن عن المتهم الرابع والخامس
4/ سر الختم مكاوي عن المتهم الثالث
القـرار:
سعادة السيد/ رئيس القضاء جلال عي لطفى
التاريخ : 8/6/1992م
في استئناف حكم المحكمة الخاصة بالأبيض التي شكلها والي ولاية كردفان لمحاكمة المتهمين :
1/ علي أبو عنجة الموت
2/ دلدوم الختيم أشقر
3/ الفاضل الحاج سليمان
4/ امام محمود عبد الرازق
5/محجوب علي محجوب
تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م والمادة 37 (ب) من لائحة الطوارئ بالنسبة للمتهم الأول . والمادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م مقرؤه مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع الماده 25 من القانون الجنائي سنة 1991م بالنسبة لبقية المتهمين.
(1) بتاريخ 9/5/1992م بموجب خطاب من مدير أمن ولاية كردفان تم فتح بلاغ تحت رقم 149/1992م بقسم شرطة الأوسط بالأبيض ضد المتهم الأول على أبو عنجة الموت تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م والمادة 37(أ) من لائحة الطوارئ عدلت فيما بعد إلى المادة 37(ب) من نفس اللائحة وذلك لإذاعته بياناً في الراديو والتلفزيون تحدث فيه عن مفاوضات سلام جارية بين الدولة متمثلة في محافظها بكادقلي وبين الخارجين على القانون في جنوب كردفان ويزف فيه البشرى للمواطنين بالنتائج الإيجابية للمفاوضات ويناشد الخوارج ليسلموا أسلحتهم والعودة للعمل مع بقية المواطنين لما فيه مصلحة البلاد مما اعتبرته الجهة التنفيذية نشراً لأسرار الدولة دون عذر مقبول وإفشاء لمعلومات من شأنها الإضرار بالقوات المسلحة كما وضم إلى البلاغ المتهمون الثاني والثالث والرابع والخامس بتهمة التحريض على ما قام به المتهم الأول تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37 (ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي سنة 1991م.
وقد أضافت المحكمة للمتهمين الثلاث والأوائل تهمة ثالثة تحت المادة 50 من القانون الجنائي لسنة 1991م وهي التي تعاقب كل من يقوم بعمل من شأنه تقويض النظام الدستوري في البلاد والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
(2) استمعت المحكمة لشهود الاتهام وللمتهمين وشهود الدفاع وأصدرت حكمها كالآتي بعد استبعاد التهمة تحت المادة 50 من القانون الجنائي من صحيفة الاتهام.
1/ علي أبو عنجة الموت :
أدين تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات مع المعاملة الخاصة.
2/ دلدوم الختيم أشقر :
أدين تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع المعاملة الخاصة.
3/ الفاضل حاج سليمان:
أدين تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع المعاملة الخاصة.
4/ امام محمود عبد الرازق:
أدين تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م وحكم عليه بحسن السير والسلوك لمدة عام وفي حالة الإخلال بذلك يسجن لمدة ثلاث سنوات.
5/ محجوب علي محجوب:
أدين تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م وحكم عليه بحسن السير والسلوك لمدة عام وفي حالة الإخلال بذلك يسجن لمدة ثلاث سنوات .
(3) المتهمون الثاني والثالث والرابع والخامس في هذه القضية يواجهون تهمة تحريض المهم الأول على إتيانه فعلاً وهو إذاعة بيان عن مفاوضات السلام بجنوب كردفان اعتبره الاتهام جريمة تحت المواد المشار إليها آنفاً .والذي جرى عليه العمل في هذه الحالات أن المحكمة الاستئنافية عند نظر الاستئناف تبدأ بمناقشة عناصر الجريمة التي تم ارتكابها وما قدم من بينات لإثباتها لأنه لو وصلت المحكمة الي قناعة أن البينات التي قدمت ضد المتهم الذي وقع عليه التحريض لا تشكل جريمة فإنها سوف لا تبحث في تهم التحريض ضد المحرضين لأن التهم ضدهم ستسقط تلقائياً ، ولكن بالرغم من ذلك فإنني أرى في هذه القضية أنه من الأنسب والأفضل أن أناقش التهم الخاصة بالتحريض أولاً قبل مناقشة الفعل موضوع التهمة وذلك لأنه حسب ما هو ثابت من وقائع فإن جميع المتهمين ما عدا الأول لم يشتركوا في كتابة البيان موضوع التهمة ولا يعلمون شيئاً عن تفاصيل محتواه إلا بعد إذاعته ،وعليه سأبدأ بالمتهم الثاني :
(4) المتهم الثاني دلدوم الختيم أشقر:
لقد اعتمدت المحكمة في إدانتها للمتهم الثاني بالنسبة للتهم الموجهة إليه على الآتي .
أ/ أن المتهم الثاني قال للمتهم الأول عندما أخبره في منزله عن نجاح مفاوضات السلام (مرحباً بالسلام) وإن هذه العبارة كانت سبباً في تحريك المتهم الأول وحفزه على إذاعة البيان.
ب/ أن المتهم الثاني لم يتخذ أية إجراءات لنفي البيان.
ج/ أن المتهم الثاني عندما ذهب لمكاتب الأمن لم يذهب إليها لاحتواء آثار البيان بل ذهب إليها ليعاون المتهم الأول للإفلات من قبضة رجال الأمن.
د/ إن مدير الأمن بولاية كردفان قد شهد بأن المتهم الثاني كان سباقاً دائماً للدفاع عن المتهمين في قضايا التمرد والطابور الخامس بالرغم من رئاسته للجنة الأمن والنظام العام باللجنة الشعبية للولاية.
هـ/ أن مرض المتهم الثاني في اليوم الذي أذيع فيه البيان لم يكن ذلك المرض الخطير لأنه كان يباشر أعماله ويستقبل ضيوفه.
هذه هي خلاصة ما قدم من بينات ضد المتهم الثاني وسأناقش كل واحد منها على حده
أولاً :
لقد ثبت من البينات التي قدمت للمحكمة أن المتهم الأول قام بزيارة المتهم الثاني في منزله ووجده مريضاً وكان سبب الزيارة مناقشة مشكلة كنيسة بالأبيض وأن المتهم الأول عندما بدأ الحديث عن مفاوضات السلام علق المتهم الثاني على الخبر بقوله (مرحباً بالسلام) ولم يزد على ذلك كما وأن المتهم الأول لم يتمكن من الاستمرار في حديثه ونقل ما علمه عن الموضوع للمتهم الثاني نسبة لوجود أشخاص آخرين في الحجرة ولم يثبت أن المتهم الأول قد نقل أي تفاصيل عن الموضوع للمتهم الثاني كما ولم يذكر له أي شئ عن بيان سيصدره بنقل الخبر للمواطنين أو بمناشدة الخوارج للعودة للسلم.
وعليه يتضح بما هو ثابت أن المحكمة الموقرة قد قفزت إلى استنتاج لا تتفق مقدماته مع نتائجه بل أنه لا يتفق مع المنطق السليم أو القانون وهو أن عبارة (مرحباً بالسلام) هي التي حركت وحفزت المتهم الأول لإذاعة بيان في هذا الصدد ولم توضح لنا المحكمة الموقرة ما يربط هذه العبارة بما صدر من المتهم الأول من بيان وقد حاولت أن أجد مثل هذه الصلة فلم أجد ما يشير من بعيد أو قريب إلى أي نوع من الصلة أو حتى ما يشبه ذلك خاصة وأنه لم يثبت أن المتهم الثاني قد وقف على أي تفاصيل عن المفاوضات أو أن أي حديث قد دار بينه وبين المتهم الأول عن إذاعة بيان في هذا الشأن.
وبالرغم من ثبوت عدم علم المتهم الثاني بتفاصيل مفاوضات السلام فإن السيد رئيس الإدارة القانونية وممثل الاتهام الأستاذ/ عبد العزيز الكردي يورد في مرافعته الختامية التي سأتحدث عنها فيما بعد (صفحة 128 من المحضر – الفقرة الأخيرة) بأن المتهم كان يعلم محتويات البيان قبل إذاعته ، ومما هو ثابت فإن ما ذكره السيد ممثل الاتهام من علم المتهم الثاني بالبيان قبل إذاعته مجرد اختلاق وافتراء لا يسنده واقع ما استمعت إليه المحكمة من أقوال وكان الأحرى به أن يتحرى الدقة والأمانة فيما ثبت وما لم يثبت خاصة وأنه لا يمثل الدولة وحدها ولكن من واجبه أيضاً مراعاة وحماية حقوق المواطنين وإبراز الحقائق الثابتة المجردة للمحكمة الموقرة دون اختلاق أو اصطناع أو استنتاج أو اجتهاد أو انطباعات شخصية.
ثم إن التحريض وهو الذي عرفته المادة 25 من القانون الجنائي سنة 1991م بأنه إغراء الشخص لغيره بارتكاب جريمة أو أمره لشخص مكلف تحت سلطانه بارتكابها لم يتوفر في هذه الحالة لمجرد تعليق المتهم بقوله " مرحباً بالسلام" إذ م ترد أية بينة تشير إلى أن المتهم الثاني قد أغرى أو أعز أو أوحى إلى المتهم الأول بإذاعة بيان عن مفاوضات السلام أو أمره بذلك.
إن المقصود مما جاء في كتاب د. عبد الله النعيم الذي أشارت إليه المحكمة الموقرة والذي جاء فيه أن مجرد الإشارة تكفي لإثبات جريمة التحريض ليس أية إشارة أو تلميح ولكن يجب أن تكون الإشارة أو التلميح مرتبطاً بالفعل موضوع التحريض وفي هذه الحالة فإن الفعل موضوع التهمة هو إذاعة بيان على المواطنين وعبارة " مرحباً بالسلام" لا يمكن أن تكون محركاً وحافزاً لإذاعة بيان بالطريقة والصيغة التي وردت في بيان المتهم الأول لأنها لم تنم عن تحريض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للقيام بأي عمل من الأعمال سواء كان مشروعاً أو غير مشروع ناهيك عن إذاعة بيان.
ثانياً :
جاء في حيثيات المحكمة الموقرة في تسبيبها لإثبات التحريض أن المتهم الثاني عندما سع البيان استنكره ولكنه لم يتخذ أي إجراء لاحتوائه أو نفيه وفي اعتقادي أن الاتهام والمحكمة الموقرة قد فهموا جريمة التحريض فهماً خاطئاً لأن نفي البيان أو الاعتراض عليه أمر لا حق لإذاعة البيان والتحريض الذي يقصده القانون بالإغراء أو الأمر هو الذي يسبق الفعل ولا يفسر تقصير الشخص حتى إذا كان ملزماً قانوناً بأنه حرض على ارتكاب الفعل إذا لم ينفه أو يحتويه ولو صح هذا لاعتبرنا كل مسئول محرضاً لكل ما يرتكبه من أفعال لا يقرها القانون.
صحيح أن القانون في شرحه لإثبات التحريض قد أباح الأخذ بالأفعال اللاحقة لإرتكاب الفعل التي تدل على التحريض ولكن المتهم الثاني في هذه الحالة لم يقم بأي فعل يمكن أن تستدل به المحكمة على أنه كان محرضاً للمتهم الأول.
وحتى لو افترضنا أنه من واجب المتهم الثاني نفى هذا البيان الذي أذاعه المتهم الأول فهل أعطى الفرصة الكافية لذلك .؟
إن الإجابة الواضحة على هذا السؤال هي النفي .
لقد ثبت أن المتهم الثاني كان مريضاً في منزله ولم يخرج منه إلا في صبيحة اليوم التالي بعد إذاعة البيان وقد قابل المسئولين في اللجنة الشعبية وتحدث معهم عن موضوع البيان ثم ذهب لمقابلة المتهم الأول بمكاتب الأمن تلبية لرسالة بعثها إليهم المتهم الأول وقبل أن يفعل شيئاً أو يناقش آثار البيان وما يمكن عمله فوجئ بالقبض عليه ولم ير النور حتى الآن . فكيف يستطيع أن يحتوي آثار البيان أو ينفيه وهو على هذه الحالة؟
ثالثاً :
والسبب الثالث الذي ساقته المحكمة الموقرة لإثبات تهمة التحريض ضد المتهم الثاني هو ذهابه لمكاتب الأمن لمعاونة المتهم الأول من الإفلات من قبضة الأمن.
وبالرغم من امعاني النظر في هذا الدليل الذي اعتمدت عليه المحكمة في إثبات تهمة التحريض ضد المتهم الثاني فإنني لم أجد أية صلة بينه وبين الفعل موضوع التهمة كما وأنني لم أقف على وجه الغرابة في تصرفات المتهم الثاني وذهابه لمكاتب الأمن لمعرفة الأسباب التي من أجلها قبض على زميله ونائبه في لجنة الأمن – فقد ذهب أولاً بحكم منصبه كرئيس للجنة الأمن وهذا أمر طبيعي وذهب ثانياً بصفته محامياً ومن واجبه الدفاع عن كل من يطلب مساعدته ولا يرقى ذلك إلى أنه كان متآمراً ومحرضاً للمتهم الأول لإذاعة البيان.
وقد لاحظت في هذه الواقعة بالذات أي واقعة القبض على المتهم الثاني بمجرد ظهوره في مكاتب الأمن أنه بالرغم من مكانته في الولاية وتقلده مناصب رفيعة في حكومات سابقة وعمله كمحام مرموق فقد قبض عليه كغيره من السوقه وعامة الناس وحثالة المجرمين دون مراعاة لشخصه ومكانته أو المهنة التي يزاولها حالياً أو ما يقوم به تطوعاً كرئيس للجنة الأمن والنظام العام.
رابعاً :
لقد ذكرت المحكمة كسبب رابع على إثبات تهمة التحريض ضد المتهم الثاني بأنه كان سباقاً دائماً للدفاع عن المتهمين في قضايا التمرد والطابور الخامس بالرغم من رئاسته للجنة الأمن والنظام العام.
لقد لاحظت في شهادة مدير الأمن للولاية التي اعتمدت عليها المحكمة في ذكرها لهذا السبب تحاملاً شديداً ضد المتهم الثاني بالرغم من أنه أحد أعوانه في الولاية بالنسبة للمسائل الأمنية ومن الذين يلجأ إليهم لمعرفة الكثير من الحقائق إذا كانت الأمور تسير سيرها الطبيعي.
وإن ما شهد به السيد /مدير الأمن بأن المتهم الثاني يدافع عن المتمردين والطابور الخامس ولذا فإنه يعتبر محرضاً لما يرتكبونه من أفعال وبالتالي يعتبر محرضاً للمتهم الأول لإذاعة البيان مجرد رأي شخصي واستنتاج غير صحيح وفهم خاطئ لمهنة المحاماة.
إن المحاماة من أشرف المهن وأجلها وهي القضاء الواقف ومن واجب المحامي أن يكون دائماً على استعداد لمساعدة ومعاونة كل من يطلب مساعدته ومن أخلاقيات مهنة المحاماة ألا يرفض المحامي الدفاع عن أي شخص بسبب طبيعة الجريمة التي ارتكبها أو بسبب اختلاف الرأي أو المذهب السياسي أو بسبب اختلاف الدين أو العقيدة وهنالك العديد من السوابق التي دافع فيها محامون عن متهمين في قضايا تتعلق بالرأي وهم لا يشاركونهم ما يؤمنون به من آراء في السودان وفي خارج السودان .
وقد دافع المحامي الإنجليزي الشهير المستر برت عن الزعيم الراحل جومو كنياتا عندما كان رئيساً لحركة الماو ماو التي اغتالت المئات من أبناء الإنجليز وخربت مزارعهم ومصانعهم في كينيا . ولم يرفض المحامي الدفاع عن جو كنياتا عندما طلب منه ذلك ولم يستنكر الإنجليز دفاع محام إنجليزي عن عدو الإنجليز الأول في كينيا ولم يقولوا أنه محرض على الاغتيالات بل ارتفع مقامه في نظرهم وقدروه حق قدره واحترموه لأن أيمانهم بحق الدفاع عن حرية أي فرد أقوى من أي شعور سياسي حتى ولو كان المتهم عدواً لهم.
إن من الخطأ تصنيف المحامي مع من يدافع عنه من المجرمين لأن المحامين لا يدافعون في جل قضاياهم عن الشرفاء وأخيار الناس لأن الشرفاء وأخيار الناس لا يرتادون مكاتب البوليس متهمين ولا يقفون أمام محاكم الجنايات لمحاكمتهم جنائياً ولكنهم يدافعون عن كل من اتهم بارتكاب جريمة تتصل بأي نشاط من نشاطات البشر الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وغيرها وفي كل هذه الحالات يجب ألا ينظر إلى المحامي بأنه محرض على ارتكاب الجرائم التي يمثل أمام المحاكم مدافعاً عن مرتكبيها لأن هذه نظرة ضيقة تتنافى مع المثل والقيم والمبادئ السامية وحقوق الإنسان وأخلاقيات مهنة المحاماة.
وإذا كانت المحكمة قد اعتبرت دفاع المتهم الثاني عن الخوارج والطابور الخامس مما يؤخذ عليه ويصفه بالتآمر معهم فلماذا لم تأخذ ما ثبت في صالحه بشهادة شهود دفاعه وهم من خيرة الناس بما قام به من أعمال ضد الخوارج ونشاطه المتواصل لأحباط أعمالهم بشخصه ومن ينتمون إليه من عشيرته الذين أثبتوا ولاءهم لا بالمال والكلام والخطب فحسب ولكن بالاستشهاد في سبيل الوطن.
إن المتهم الثاني من كبار المحامين في ولاية كردفان ومن القانونيين البارزين فيها وله أهله وقبيلته وعشيرته ومن الطبيعي أن يكون أول من يختارونه للدفاع عنهم سواء اتهموا تحت المادة 96 من قانون العقوبات سنة 1983م أو تحت أي مادة من أي قانون آخر ومن واجبه أن يستجيب لطلبهم بالرغم من أنه يعمل رئيساً للجنة الأمن لأن ذلك لا يتعارض مع مهنته كمحام إلا إذا ثبت أنه استغل معلوماته التي تحصل عليها في عمله في اللجنة في دفاعه عن المتهم أو المتهمين وهذا ما لم يثبت أمام المحكمة الموقرة وما لم يقل به حتى مدير أمن الولاية في شهادته.
ثم ما هي صلة عمل المتهم الثاني ودفاعه عن المتهمين من الخوارج بالتحريض على إذاعة البيان موضوع القضية ?
إن المحكمة الموقرة لم توضح ذلك كما وإنني لم أرى صلة بينهما.
خامساً :
لقد جاء في حيثيات المحكة الموقرة أنه مما يثبت تحريض المتهم الثاني للمتهم الأول ما ادعاه من مرض مع أن مرضه لم يكن ذلك المرض الذي يقعده لأنه يباشر أعماله ويستقبل ضيوفه.
لقد تجاوزت المحكمة الموقرة اختصاصاتها وأبدت رأياً في موضوع طبي لا تعلم عنه شيئاً ولم ترد شهادة طبيه عنه أمامها . أن مقابلة المتهم الثاني للمتهم الأول بمنزله لا يعني ذلك أنه كان معافاً صحيح البدن ولوادعى المتهم المرض ليثبت أنه لم يخرج في ذلك اليوم الذي أذيع فيه البيان من منزله فهل هذا يثبت تحريضاً لإذاعة البيان أو تحريضاً لإرتكاب أي جريمة أخرى؟
لم يوضح لنا الاتهام ولا المحكمة أين يكمن قصد المتهم الجنائي على التحريض كما وأنه لم توضح لنا المحكمة أو الاتهام دافع أو دوافع المتهم على هذا التحريض لإذاعة البيان لافشال محاولات الصلح.
إنني أرى أن كل ما ورد ضد المتهم الثاني دلدوم الختيم أشقر من بينات لإثبات تحريض المتهم الأول على إذاعة البيان موضوع التهمة لا يرقى حتى لمجرد الشبهة التي تبرر تقديمه لمحاكمته أمام محكمة جنائية.
وعليه آمر بإلغاء الإدانة والعقوبة الصادرة ضده تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37 (ب) مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م.
(5) المتهم الثالث :الفاضل الحاج سليمان
لقد استندت المحكمة في إدانتها للمتهم الثالث بالتحريض تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون والمادة 37 (ب) مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م على الآتي :-
(أ) اعتراف المتهم الثالث بأنه وجه المتهم الأول ليذيع مناشدة للخوارج وذلك بعد أن علم بتفاصيل المفاوضات مما يستنتج منه أنه كان يعلم أن المتهم الأول سيذيع هذه التفاصيل.
(ب) أنه تشاور مع المتهم في إذاعة البيان.
التهمة الموجهة ضد المتهم الثالث هو أنه بتاريخ 9/5/1992م قام بتحريض المتهم الأول لإذاعة البيان موضوع القضية والذي عن طريقه قام المتهم الأول بإفشاء معلومات سرية تتعلق بالدولة (المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م) والتي من شأنها أن تثبط همم أفراد القوات المسلحة في التعامل ضد العدو (المادة 37 (ب) من لائحة الطوارئ).
فهل قام المتهم الثالث فعلاً بتحريض المتهم الأول ليفشي أسرار الدولة مما كان سبباً في تثبيط همم أفراد قوات الشعب المسلحة؟
والتحريض الذي يعاقب عليه القانون وفقاً لنص المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م يتحدث عن أمرين يتم بهما ذلك التحريض وهما إغراء شخص لارتكاب جريمة أوأمره بارتكابها وقد فسر شراح القوانين بأن التحريض قد يكون بالمساعدة أو التشجيع أو الدفع وقد يكون في صورة هدية أو وعد أو وعيد أو مخادعة أو دسيسة على العموم كل ما يهيج شعور الفاعل ويدفعه إلى ارتكاب الجريمة.
ويستلزم القانون أن يكون التحريض مباشراً على ارتكاب الفعل المكون للجريمة فلو ارتكب الشخص الذي حرض جريمة غير الجريمة التي حرض على ارتكابها لا يكون المحرض مرتكباً لجريمة التحريض.
فهل ورد في الأفعال والأقوال التي أثبتت ضد المتهم الثالث ما يشير إلى تحريضه للمتهم الأول لإذاعة البيان بصورته التي اعتبرتها الجهات التنفيذية جريمة يعاقب عليها القانون؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من معرفة ما أثبته الاتهام في هذا الشأن من حقائق حتى نتمكن أن نحكم على ضوئها عما إذا كان المتهم الثالث قد حرض المتهم الأول فعلاً أم لا.
وبمراجعة ما هو ثابت أمام المحكمة نجد أن المتهم الثالث بعد أن علم بمفاوضات السلام التي كانت جارية بين الجهاز التنفيذي في الولاية والخوارج في جنوب كردفان من المتهم الأول اقترح عليه أن يصدر مناشدة أو نداءاً كما كان يفعل دائماً داعياً الخوارج ليعودوا إلى حظيرة الوطن ويسلموا أسلحتهم وأن يشير إلى ما أصدره الفريق عمر حسن أحمد البشير من عفو عام وقد أكد ذلك المتهم الأول في أقواله ، ولم يطلب المتهم الثالث من المتهم الأو أن يذيع أية تفاصيل عن المفاوضات كما ورد في البيان وقد أقر المتهم الأول بذلك حيث جاء في أقواله بصفحة 49 من المحضر " المتهم الثالث ماقال لي تحدث عن مفاوضات فقط قال لي اعم مناشدة للمتمردين لإلقاء السلاح . وما ذكرته من مفاوضات كان تصرف فردي مني لأنني كنت فرحان.
لم يثبت أن المتهم الثالث قد صاغ البيان مع المتهم الأول ولم يثبت أنه أملى عليه شيئاً منه ولم يثبت أنه أطلع على البيان بعد صياغته وقبل إذاعته ، ولم يقدم الاتهام أية بينات لإثبات ما وجهه من تهم ضد المتهم الثالث.
ومن الوقائع الثابتة لا أرى ما يشير إلى تحريض من جانب المتهم الثالث للمتهم الأول سواء عن طريق الإغراء أو عن طريق أمره لإذاعة ما قام بإذاعته من بيان وكل الذي حدث هو أنه بصفته مقرراً للجنة الأمن والنظام العام ومن شأنه وواجبه الإلمام بما يتعلق بأمن الولاية قد اهتم بما تم من مفاوضات السلام في جنوب كردفان التي نقلها إليه المتهم الأول وحرصاً منه على رفع الروح المعنوية للمواطنين والإشادة بما تقوم به الجهات التنفيذية من مجهودات لإحلال السلام طلب من المتهم الأول أن يذيع بياناً مشيداً بما قام به المسئولون من خطوات نحو السلام ومناشداً الخوارج للعودة والاشتراك مع إخوانهم في بناء الوطن وإعماره.
وقد ثبت أن المتهم الأول قد قام في الماضي بتوجيه العديد من هذه النداءات باللغة العربية وباللهجة المحلية ولذا فلا غرابة فيما وجه به المتهم الثالث المتهم الأول لإذاعة بيان كما اعتاد ذلك في مرات سابقة.
ثم لماذا يحرض المتهم الثالث المتهم الأول ليذيع بياناً يفشي فيه أسرار الدولة ويثبط همم أفراد قوات الشعب المسلحة وهو الذي عرف بإخلاصه للدولة وإيمانه بتوجهاتها ؟ وما هي مصلحته في ذلك ؟
كنت أتوقع من الاتهام أن يوضح للمحكمة الموقرة ما يشير من قريب أو بعيد إلى قصد المتهم الجنائي ولكنني لم أجد شيئاً من ذلك كما وكنت أتوقع أن يوضح الاتهام الدافع أو الدوافع التي حركت المتهم ليضر بمصالح الدولة بنشر أسرارها ويثبط همم قوات الشعب المسلحة . لقد فشل الاتهام فشلاً واضحاً في إبراز أية بينات تشير إلى قصد المتهم الثالث الجنائي . أو تشير إلى أنه حرض المتهم الأول لكي يذيع ما اعتبرته الدولة سراً من أسرارها.
ومما تقدم فإنني أجد نفسي غير متفق مع ما وصلت إليه المحكمة الموقرة من إدانة للمتهم الثالث تحت المواد التي اتهم بموجبها وعليه آمر بإلغاء الإدانة والعقوبة التي صدرت ضده كما آمر بإطلاق سراحه فوراً.
(6) المتهم الرابع امام محمود الرازق والمتهم الخامس محجوب علي محجوب
استندت المحكمة في إدانة المتهين المذكورين بتهمة التحريض على الآتي :-
(أ) أنهما سمحا للمتهم الأول بإذاعة وبث البيان موضوع القضية.
(ب) أنهما لم يراجعا البيان قبل بثه .
أن كل ما قام به المتهمان هو أنهما سمحا للمتهم الأول على أبو عنجة الموت نائب رئيس لجنة الأمن والنظام العام بإذاعة البيان موضوع التهمة . فهل هذا يشكل تحريضاً لارتكاب جريمة تحت المادة 55 من القانون الجنائي سنة 1991م والمادة 37(ب) من قانون الطوارئ؟
بمراجعتي لما ورد من بينات اتضح لي أن الاتهام لم يورد حقيقة واحدة تثبت تحريضهما للمتهم الأول أو تشير إلى سوء قصد من جانبهما.
أن المتهم الأول وهو نائب رئيس لجنة الأمن والنظام العام بالولاية قد اعتاد التردد على مكاتب الإذاعة والتلفزيون لإذاعة بيانات ومناشدات موجهة للخوارج مما يساعد الأجهزة التنفيذية في أداء مهامها ولم يثبت أنهما قد تلقيا أية أوامر أو تحذير لمنع المتهم الأول من إذاعة تلك المناشدات . وعندما حضر المتهم الأول لدار الإذاعة والتلفزيون قد اعتقدا بحسن نية أن بيانه الذي يشيد فيه بالوالي وبمحافظ كادقلي ويدعو للسلام بيان هام يستحق تقديمه على بقية مواد البرامج الأخرى التي كانت معدة سلفاً.
وكما ذكرنا فإن القانون يستلزم أن يكون التحريض مباشراً ولم يثبت الاتهام أي فعل أو قول مباشر من المتهمين بتحريض المتهم الأول لارتكابه الفعل المكون للجريمة.
إن الخطأ الوحيد الذي ارتكبه المتهمان الرابع والخامس هو أنهما لم يراجعا البيان وهذا له ما يبرره لأن ما سمعاه من مقدمات للبيان لا يثير أي شك ولا يدل على أن فيه ما يمنع إذاعته وحتى ولو راجعا البيان فإن أمر إذاعته متروك لهما وليس عليهما رقابة في ذلك سوى تقديرهما الشخصي.
لم يثبت الاتهام أي علاقة تربط بين المتهم الأول والمتهمين الرابع والخامس يستنتج منها أنهما سمحا له بإذاعة البيان لوجود تآمر بينهم كما لم يوضح الدافع الذي دفع المتهمين لكي يسمحا بسوء قصد للمتهم الأول بإذاعة البيان موضوع الاتهام.
لقد فشل الاتهام في إثبات أية تهمة ضد المتهمين سواء التي وجهها إليهما تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م مقروءة مع المادة 25 من نفس القانون أو تحت المادة 37 (ب) من لائحة الطوارئ مقروءة مع المادة 25 من القانون الجنائي لسنة 1991م.
وعليه آمر بإلغاء الإدانة والعقوبة الصادرة ضدهما.
(7) المتهم الأول : علي أبو عنجة الموت
استندت المحكمة على إدانتها للمتهم الأو تحت المادة 55 من القانون الجنائي 1991م والمادة 37 (ب) من لائحة الطوارئ على الآتي :-
أ/ اعتراف المتهم بإذاعته للبيان.
ب/ أن المتهم أذاع معلومات سرية تمس الدولة والقوات المسلحة مما يثبط همم المجاهدين وأفراد قوات الشعب المسلحة وينسف مبدأ الجهاد ويتنافى مع الفتوى التي أصدرها العلماء بالأبيض بوجوب الجهاد
لقد وجهت المحكمة الموقرة للمتهم الأول تهمة تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م نصها كالآتي :-
أنك في اليوم 7/5/1992م وبمدينة الأبيض قمت بإذاعة معلومات عن مفاوضات تجري بين حكومة الولاية ومحافظة كادقلي مع الخوارج ، ولما كانت مثل هذه المعلومات تعتبر سرية حصلت عليها ونشرتها دون إذن لذا تكون قد ارتكبت مخالفة لنص المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م.
وقد وجهت المحكمة الموقرة أيضاً تهمة ضد المتهم الأول تحت المادة 37 (ب) ونصها كالآتي :-
... أنك قمت في 7/5/1992م وبمدينة الأبيض بإذاعة بيان عبر إذاعة وتلفزيون الولاية تضمن معلومات من شأنها الإضرار بالقوات المسلحة وتثبيط همة أفرادها ودعوتهم للتراخي في مواجهة العدو خاصة وأن تلك القوات لا تزال تقاتل في جبهات القتال وبفعلك هذا تكون قد خالفت نص المادة 37(ب) من لائحة الطوارئ.
إن إثبات هاتين التهمتين يقع على عاتق الاتهام وليس على المتهم إثبات العكس ، فهل أثبت الاتهام بما لا يتطرقه الشك المعقول ما وجهه من تهم للمتهم الأول ؟
أن كل الذي قدمه الاتهام في هذا الصدد هو اعتراف المتهم القضائي بإذاعته للبيان وشهادة شاهدين من رجال الأمن وشريط الكاسيت الذي سجل فيه البيان وشريط الفيديو الذي سجل في التلفزيون لنفس البيان.
إن المتهم الأول لا ينكر إذاعته للبيان بصفته نائباً لرئيس لجنة الأمن والنظام العام باللجنة الشعبية للإنقاذ الوطني بولاية كردفان ولكنه ينكر سرية المعلومات التي تحصل عليها كما وينكر أن بيانه يتضمن ما يؤثر على الروح المعنوية للقوات المسلحة أو تثبيط هممهم ، كما ويدفع بأن إذاعة البيان المذكور كانت بحسن نية وامتداد لبياناته السابقة التي تعكس نشاطات لجنة الأمن.
ولمعرفة صحة ما دفع به المتهم الأول لا بد أولاً من تحليل عناصر المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ . وتنص المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م على الآتي :-
" من يحصل بأي طريقة على أي أمور سرية من معلومات تتعلق بشئون الدولة دون إذن ومن يفضي أو يشرع في الإفضاء بتلك المعلومات أو المستندات لأي شخص دون إذن أو عذر مقبول يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً وتكون العقوبة بالسجن مدة لا تجاوز خمس سنوات إذا كان الجاني موظفاً عاماً"
وتنص المادة 37(ب) على الآتي :
" أن يستعمل في العمليات الحربية أو عند نشوب المعارك ألفاظاً أو أية وسائل من شأنها تثبيط همة أفراد القوات المسلحة الخاضعين للأحكام العسكرية في التعامل ضد العدو أو تدعو للتراخي في مواجهته.."
وفي رأيي بعد مراجعة الوقائع والقانون فإن المتهم الأول لم يرتكب جريمة تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م والمادة 37(ب) من لائحة الطوارئ وذلك للأسباب الآتية :-
أولاً :
تشترط المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م أن تكون المعلومات التي تحصل عليها المتهم وقام بنشرها معلومات سرية . والمعلومات التي تحصل عليها المتهم الأول وأذاعها في بيانه معلومات عامة وشائعة يعلمها عامة الناس في جنوب كردفان وفي غير جنوب كردفان.
ولم يثبت أن المتهم قد تحصل عليها من أجهزة الأمن ولا من أي جهة رسمية ولكن أخبرها به مواطن عادي وهو الأستاذ محمد عبد الله الرضي المشهور بعياض وهو مدير المرحلة الابتدائية بمحافظة كادقلي.
ثم إن الحديث عن السلام أمر معروف يتحدث عنه الناس في مجالسهم في كردفان وفي غير كردفان وما تشترطه المادة وتحرم نشره هو تلك المعلومات السرية التي لا تعلمها إلا الجهات الرسمية وليست المعلومات التي يتناقلها الناس كأمر عادي كما هو الحال بالنسبة للمعلومات التي وردت في البيان.
وبما أن هذا الشرط وهو سرية المعلومات قد انتفى بالنسبة للمعلومات التي تمت إذاعتها فإنه بالتالي تنهار كل التهمة الموجهة للمتهم الأول تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م.
ثانياً :
لقد أذاع المتهم الأول البيان من موقع مسئوليته كنائب لرئيس لجنة الأمن والنظام العام باللجنة الشعبية في الولاية . ولا غرابة في ذلك وليس هناك من الظروف والملابسات حسب ما ورد في البينات ما يدعو للشك في حسن نواياه خاصة وأنه اعتاد أن يذيع مثل هذه البيانات في الماضي وقد كان حسن النية في كل ما قام به أو على الأقل في كل ما بدر منه في الظاهر ولم يثبت الاتهام عكس ذلك وهو الذي يقع عليه عبء إثبات سوء القصد.
ثالثاً :
يقول الاتهام أن الحرب والسلام من اختصاص الحكومة الاتحادية وليس من اختصاص لجنة الأمن والنظام العام وأن المتهم قد تجاوز اختصاصه وبذا يكون قد ارتكب جريمة تحت المواد التي اتهم بموجبها . ومع احترامنا للاتهام وللمحكمة الموقرة فإن تجاوز الاختصاص لا يثبت جريمة ضد المتهم الأول خاصة وأنه لم يبرم صلحاً ولم يرفض سلاماً وكل ما ذكره في بيانه هو الإشادة بالمسئولين وبالعفو العام الذي أصدره السيد/ رئيس مجلس قيادة الثورة وناشد الخوارج في جنوب كردفان ليعودوا إلى حظيرة الوطن للعمل مع اخوتهم فيما يفيد البلاد ويفيدهم بدلاً من الحرب والتناحر . ومن يتجاوز اختصاصاته من أعضاء اللجان الشعبية لا يقدم ليحاكم جنائياً ولكن يوقف عند حده بالطرق الإدارية المعروفة.
رابعاً :
لم يثبت الاتهام أي تأثير طرأ على موقف القوات المسلحة أو المجاهدين بعد إذاعة البيان فلم يثبط البيان همة أحد منهم ولم يثبت أن أحداً منه تراخى في مواجهة المتمردين بسبب البيان . وهذا يعني أن الجريمة موضوع التحريض لم تقع وما جاء في شهادة مدير الأمن بالولاية عما قد يحدث من تأثير على معنويات القوات المسلحة والمجاهدين مجرد استنتاج ورأي شخصي لا يعول عليه في إدانة أحد في مثل هذه الجرائم الخطيرة التي يدعى الاتهام أن المتهم الأول قد اقترفها.
خامساً :
لقد استمعت إلى البيان في شريط كاسيت وشريط فيديو أكثر من ثلاث مرات محاولاً أن أجد فيه ما يمنع القانون إذاعته من معلومات وقد وصلت إلى قناعة تامة بأنه بيان عادي يمكن أن يصدر من المتهم الأول ومن غيره من المتحمسين للسلام. وقد استنتجت عكس ما استنتجته المحكمة وهو أن فحوى البيان وما جاء فيه من مناشدة وطنية مخلصة مما يستحق عليه المتهم الأول الشكر والتقدير بدلاً من القبض عليه ومحاكمته أمام محاكم الجنايات وزجه في غياهب السجون.
وعليه لما ذكرت من أسباب فإنني أرى أن المتهم الأول لم يرتكب جريمة تحت المادة 55 من القانون الجنائي لسنة 1991م أو المادة 37(ب) من لائحة الطوارئ وأمر بإلغاء الإدانة والعقوبة كما وآمر بإطلاق سراحه فوراً.
(8) وقبل ختام مذكرتي هذه رأيت من الأنسب أن أنقل ملاحظاتي عن هذه المحاكمة لمن يهمهم أمر العدالة وهي كالآتي :
أولاً :
بالرغم من إنني اختلف مع المحكمة فيما وصلت إليه بأغلبية أعضائها من إدانة للمتهمين إلا أنني أرى أنها تستحق الإشادة لإعطائها المتهمين كل الفرص المتاحة للدفاع عن أنفسهم كما وأشيد بمحضرها المرتب وإثباتها لما استمعت إليه من أقوال بلغة سليمة وخط واضح مما سهل مهمة الجهة الاستئنافية في الاطلاع على أوراق القضية دون مشقة أو عناء.
ثانياً :
لقد لاحظت بمزيد من الأسف أن الاتهام في هذه القضية كان ضعيفاً ومهزوزاً وغير ملم بالقضية التي قدمها من ناحية الوقائع والقانون والاهتمام . أما الوقائع قد ضربت لذلك مثلاً عند مناقشتي للبينات ضد المتهم الثاني وهو قوله بأن المتهم الثاني دلدوم الختيم أشقر قد استمع لتفاصيل البيان من المتهم الأول قبل إذاعته مع أن هذا لم يحدث إطلاقاً ولم ترد فيه بينة وهو مجرد افتراء من جانبه . أما بالنسبة للقانون فإنه لم يبحث في عناصر أي من الجرائم التي وجهت التهمة بمقتضاها للمتهمين وكان اعتماده كله على الاستنتاج والرأي الشخصي غير المقبول قانوناً . ولو حلل السيد مدير الإدارة القانونية عناصر كل جريمة وطبقها على الوقائع التي تتعلق بكل متهم على حده لما تقدم بهذه القضية الهزيلة وقال رأيه بشجاعة في تقديم المتهمين للمحاكمة الجنائية بدلاً من هذا الإحراج الذي تسبب فيه بالنسبة للمسئولين الذين يعتمدون اعتماداً كلياً على نصائح مستشاريهم من القانونيين.
أما من ناحية الاهتمام بإجراءات المحاكمة فإن المرافعة الختامية التي قدمها السيد / مدير الإدارة القانونية الأستاذ / عبد العزيز الكردي هي عبارة عن صورة فتوغرافية لأصل لم يقدمه للمحكمة وهي بخط يده الذي لا يقرأ إلا بصعوبة شديدة أما المحتوى والأسلوب الذي كتبت به هذه المرافعة فإنه لا يرقى حتى إلى مستوى أسلوب كتاب العرائض.
ثالثاً :
إن اللجان الشعبية تجربة جديدة في السودان والعاملون فيها متطوعون للعمل الوطني بدافع خدمة ذويهم وأحيائهم ومواطنيهم كما هو الحال في البلاد الأخرى التي تستعين بمثل هذه اللجان الشعبية أو ما يشابهها وقد تم اختيارهم بعد التأكد من سلوكهم الشخصي وخلو صحائفهم مما يعيب أو يشين وبعد الوقوف على انتماءاتهم وولائهم . وبحكم عملهم فقد يخطئون في بعض الأحيان كغيرهم من البشر وقد يتصرفون تصرفات لا تصادف رضى الجهات التنفيذية وفي هذه الحالة فإنه من المناسب إن كانت هنالك محاسبة أو مسائلة والأوفق أن تتم بنفس روح التعامل القائمة على التعاون والتشاور بين أفراد الأسرة الواحدة بما يخدم مصالح المواطنين . ولا يحاسبون على هذه الأخطاء الإدارية كما حدث في هذه القضية أمام محاكم الجنايات ويعاملون معاملة المجرمين وغير المرغوب فيهم لأن هذا في نظري علاج لخطأ بخطأ أكبر منه وبهذا التصرف قد تفقد الدولة ما كانت تتمتع به من تعاون وتعضيد وتأييد من هذه اللجان والخطأ الإداري قد يجبر بقرار من الجهات التنفيذية أو بتصحيح من الجهات المختصة ، أما الآثار النفسية والسياسية التي تتركها هذه المعاملة غير الكريمة لأفراد هذه اللجان بتقديمهم للمحاكم الجنائية فإنه يتعذر بل يستحيل جبرها.
رابعاً :
لقد ذكر المتهمون في طلبات استئنافهم خاصة المتهم الثالث الفاضل حاج سليمان بأنهم عوملوا معاملة غير كريمة وغير إنسانية وتتنافى مع القيم السامية وروح الإسلام والشرع الحنيف وذلك في القبض أولاً وفي القبض ثانياً بعد أن قبلت ضماناتهم وفي ترحيلهم بعد ساعات من محاكمتهم من سجن الأبيض إلى سجن سواكن دون مبرر لذلك وإجبارهم على الرحيل في شاحنة مكشوفة في حر شديد وتحت وهج الشمس ومنهم المريض بمرض السكري والذي أخذ بالقوة من المستشفى لترحيله ومنع حتى من أخذ الضروري من أدويته.
وإذا صح ما ذكره المتهمون من معاملة غير إنسانية لا تمت لأخلاقياتنا كمسلمين وكسودانيين بصلة فإنه أمر يدعو للقلق فعلاً كما يدعو للأسف.
خامساً :
ألاحظ أن هذا البلاغ قد تقدمت به الجهة التنفيذية في الولاية طالبة محاكمة المتهمين لما قدمته من أدلة.
وبالرغم من إنني لم أوافق المحكمة الموقرة رأيها في إدانة المتهمين وأمرت بإلغاء الإدانة والعقوبة إلا أنني أرى أنه من العدالة والإنصاف ألا ننسى عند تعليقنا على هذه المحاكمة دور الجهة التنفيذية التي تستحق كل الإشادة والتقدير ليقظتها وحذرها واهتمامها بكل ما يتعلق بأمن الولاية وعدم تفريطها في كل ما يتصل به كبيراً كان أم صغيراً مهما كانت درجة التأكد من صحته أو عدم صحته تحسباً لما قد يحدث من ضرر بسبب الاستهانة بالأمور أو الإهمال أو اللامبالاة في مثل هذه المسائل الحساسة.
وقد لاحظت أيضاً أنه واضح من ملابسات وظروف هذه القضية أن الجهة التنفيذية لم تتقدم بهذا البلاغ بسوء قصد أو لخطأ في التقدير ولكن كل ما اتخذته من إجراءات كان بناءا على نصائح قانونية غير موفقة من الإدارة القانونية بالولاية ، ولو كلفت الإدارة القانونية نفسها قليلاُ من الجهد وقامت بدراسة متأنية لكل جوانب الموضوع بأكمله وأبدت رأيها للجهة التنفيذية بوضوح وشجاعة وأصرت عليه لسلكت محاسبة المتهمين ومساءلتهم طريقاً غير طريق محاكم الجنايات.
الأمر النهائي :
وعليه لما ذكرنا من أسباب آمر بالآتي :-
(1) إلغاء الإدانة والعقوبة بالنسبة لكل المتهمين وهم :-
1/ علي أبو عنجة الموت.
2/ دلدوم الختيم أشقر.
3/ الفاضل الحاج سليمان.
4/ إمام محمود عبد الرازق.
5/ محجوب علي محجوب
(2) إطلاق سراح المتهمين علي أبو عنجة الموت ودلدوم الختيم أشقر والفاضل الحاج سليمان فوراً.