قضية كالاس
تبدأ القصة صباح يوم 14 تشرين الاول – اكتوبر من عام 1761 ، ساعة شهدت الطريق المؤدية الى بلدية مدينة تولوز الفرنسية القائد ديفيد بودريغ يسوق خمسة أشخاص ألقي القبض عليهم منذ قليل . هؤلاء الاشخاص هم جان كالاس وزوجته آن روز وابنهما بيار واخرين هما فرنسوا لافايس والخادمة جانيت .
منذ اربع ساعات فقط ، وجد مارك انطون ، الابن البكر لجان كالاس ، مقتولا في دكان ابيه ، تاجر القماش .ماذا سبق هذا " الحادث " والمفجع ؟
في الساعة السابعة من مساء 13 تشرين الاول – اكتوبر ، أغلق جان كالاس متجره وتوجه الى بيته لينضم ، على العشاء ، الى عائلته المكونة من زوجته وولديه ، وكان عندهم ضيف هو الشاب فرنسوا لافايس . عند انتهاء العشاء ، توجه الجميع الى البهو ، باستثناء جان مارك ، الذي كان يبدوا شاحباً ومرتجفاً ، مما دفع الخادمة جانيت الى سؤاله :
- هل تشعر بالبرد يا سيدي ؟ لماذا لا تتغطى ؟
- كلا ، على العكس ، اشعر بأني احترق !
وفي الساعة التاسعة والنصف ، استأذن الضيف ، فرافقه بيار ، الابن الاصغر لجان كلاس ، وبيده قنديل . نزل الاثنان السلم وما ان وصلا الى الممر الذي يحاذي الدكان وينتهي الى الشارع حتى وجدا باب الدكان مفتوحاً . وهذا مستغرب في تلك الساعة . نظرا الى الداخل ، فاذا بهما يريان مارك – انطون مقتولاً . هرع صاحب البيت والعدد القليل من المارة ليروا ما حصل ، كما فتحت الخادمة شباكها لتصرخ :
- يا الهي ، لقد قتلوه .
في الدكان ، كان القتيل جاثياً على اكداس القماش . لم يكن عليه اي اثر لجرح ، كل ما وجده طالب من طلاب الجراحة - احضر الى المكان - هو خط اسود يلف العنق . هذا يثبت ان القتيل مات منتحراً ، خنقاً او شنقاً . بعد ذلك وفي الساعة الحادية عشرة والنصف ، حضر قائد الشرطة ديفيد بودزيغ ومعه اربعون من رجاله . وما ان رآهم المتجمهرون حتى تعالت اصوات تردد : " لقد قتلوه ! قتله هؤلاء الهوغنوا" !
والهوغنو هم الكاثوليك . اما جان كالاس ، فكان بروتستنتيا لكنه معروف بتسامحه وبسعة صدره حتى خادمته جانيت كانت كاثوليكية . ومنذ خمس وعشرون سنة ، وهي تعمل لدى عائلة كالاس دون ان ترى منهم اية مضايقة .
عام 1732 ، ولد مارك – انطون . ومنذ نعومة اظفارة ، أظهر ميلاً نحو الخطابة والمسرح . وهذا ما دفعه ، عام 1759 ، عند نيله البكالوريا ، الى التوجه نحو كلية الحقوق . لكن باب الجامعة صد في وجهه : لم يكن مسموحاً لبروتستنتي انذاك بالوصول الى المرحلة الجامعية .هذه الصدمة جعلت مارك – انطوان في وضع نفسي متعب ، ولا خلاص له من هذا الحائط المسدود الا باعتناق المذهب الكاثوليكي . ويشاع في الحي الذي تسكنه عائلته ، ومعظم سكانه كاثوليك ، ان الشاب كان ينوي اعتناق الكاثوليكية . لكن عائلته قتلته ، مفضلة له هذا المصير على ان يحقق ما صمم عليه ...! هذه الشائعة هي التي دفعت القائد بودريغ لان يلقي القبض على العائلة باكملها بما في ذلك الضيف والخادمة . وقد خالفت بذلك كل الاصول القانونية التي تمنع القبض على شخص دون اذن بذلك .
عند استجواب الموقوفين ، اكدوا جميعهم ان مارك – انطون لم يكن ينوي تغيير مذهبه الذي توارثه عن اسلافه . وعن الجريمة ، اكد الاب ، بادىء الامر ، ان ابنه ذهب ضحية اشخاص دخلوا اليه من الشارع ، لكن ليس هناك ما يثبت ذلك ، فالدكان مغلق ولا اثر لكسر او لخلع ، وهذا ما يرجح ان الجناة ، انما قدموا من داخل البيت ، غير ان الاب نفسه عاد ، في اليوم التالي، ليتراجع عن اقواله تلك ، ويقول ان ابنه لم يقتل ، بل انتحر . و دعم كلامه بأن قال انه ، عندما دخل الدكان ، بعد صراخ ابنه الثاني ، رأى القتيل معلقاً بحبل . وقد قام ، هو والابن الاخر ، يقطع الحبل . ولكن ، بعد فوات الاوان . هذه الرواية ، عاد وأكدها اخ القتيل بشهادته ، كما اكدها الاخرون ، الام والضيف والخادمة .
هذا التراجع اثلج صدر قائد الشرطة . لقد كذبوا جميعاً ، بعد ان رأوا ان رواية الجريمة على اساس تغيير المذهب لن يكتب لها النجاح . وهل يكذب بريء ؟ لكن لماذا كذبوا ؟ الامر غاية بالبساطة ففي عام 1761 ، عام وقائع هذه القضية ، كان الانتحار يشكل جرماً شائناً تعاقب عليه الجثة بأن تسحل في الشوارع ويبصق عليها المارة . لذلك ، فقد اراد أهل القتيل اخفاء الانتحار بادىء الامر ، لكنهم عادوا وكشفوه ، عندما رأوا ان روايتهم عن القتل لن تكون مقبولة من أحد .
في اليوم الثالث لحصول الحادث ، يوم 16 ، استدعي الجميع لتمثيل الجريمة . اثناء ذلك وجد ان الانتحار لم يكن ليتم الا اذا تمكن المنتحر من الصعود على كرسي ورفسه ليتدلى ويموت . هذا الكرسي لم يوجد . اذا هل صحيح ان الموت حصل بسبب الانتحار ؟ الا يمكن كذلك ، ان يكون الكرسي قد اختفى من الدكان الذي ترك منذ الجريمة ، دون حراسة ؟ ان الشرطة تؤكد ان الموت لم يكن بسبب الانتحار .
توالى الشهود ، ومعظمهم مدفوعون بالتعصب ضد البروتستنتية او بالوعود المغدقة . وها هو احدهم ، جان بيريس ، يؤكد انه راى الاب يقتل ابنه في الدكان في الساعة التاسعة والنصف من مساء حصول الموت ، لكن بعض الشهود لم تأت شهادته متوافقة ورغبة بودريغ ، منهم شاهد اكد عدم نية القتيل على اعتناق مذهب غير مذهبة ، حتى ان هذا الشاهد ذهب ابعد من ذلك عندما كشف ان مارك انطون كان ينوي الدخول في الاكليروس البروتستنتي والسفر الى جنيف لهذه الغاية ،اذا الامرليس كما يريد ان يصوره بودريغ بانه جريمة من الاهل لمنع ابنهم من اعتناق المذهب الكاثوليكي .
لكن بودريغ لم يلق سلاحه . لجأ الى اجراء اخر كان لا يزال سائداً انذاك . ويقضي بأن يعلن في كل الكنائس ، وعلى مدى ثلاثة اسابيع ، ان مارك – انطوان كان ينوي ترك البروتستنتية واعتناق الكثوليكية ، وعلى من لديه معلومات بهذا الخصوص ، ان يتقدم ويدلي بها امام الشرطة وهنا ايضاً ، لم تثمر الخطوة ، ولم يتقدم احد بأية معلومات . انتقل بودريغ الى مرحلة اكثر تقدماُ. عاد الى الاعلان في الكنائس ، ولكن مع تهديد كنسي بالحرم ، هذه المرة لكل من لديه معلومات ولا يدلي بها . هنا ايضاً ، لم يتقدم أحد . اخيراً ولما نفدت لديه كل الوسائل ، امر بودريغ بأن يجرى لمارك – انطون جناز كاثوليكي . وهذا يعني ان القتيل لم ينتحر وان في الامر جريمة . وقد رافق هذا الجناز دعاية ومديح لا مثيل لهما في تاريخ السلطة الاكليريكية . اربعون كاهناً رفعوا النعش على الاكف واوصلوه الى الكنيسة . وهناك ، رفعت لافتة بارزة كتب عليها بخط عريض : " الردة عن الهرطقة . امضاء : مارك – انطون كالاس " ولم تتخلف اية من السلطات الرسمية في المدينة عن حضور المأتم . هكذا ، صدر الحكم في قضية كالاس قبل محاكمته .
في العاشر من شهر تشرين الثاني – نوفمبر ، طلب المدعي العام الملكي ، ريكيه دي بونريبو ، الاعدام حرقاً حتى الموت لكل من الاب والام والاخ . كما طلب السجن المؤبد لفرنسوا لافايس . والسجن خمس سنوات للخادمة جانيت . وفي الثامن عشر من الشهر نفسه ، اصدرت المحكمة حكماً منسجماً مع مطالب المدعي العام . وبعد سماع اقوال دفاعية حثيثة ، عدل الحكم بحيث اصبح يقضي بالاعدام بالمقصلة للاب وبالمؤبد للام والاخ . أما الضيف والخادمة ، فقد برئا.
لكن هذا الحكم لا سيما الشق العائد للاعدام منه ، لن يصبح نهائياً ما لم يقترن بتصديق البرلمان . وقد راى البرلمان ان يصار الى تعريض الاب للتعذيب ، عله يعترف وعندها يصدق الحكم .
وهكذا ، في العاشر من شهر اذار – مارس ، سبق بودريغ المحكوم جان كالاس الى غرفة التعذيب. وقد جاء ليحصل بالاكراه على ما عجز عن الحصول عليه بالوسائل الاخرى مع تنوعها. وقبل ان يتولى الى الجلادين ، سأله بوديغ ، لاخر مرة سؤاله المعهود :
- هل صحيح انك عشت في ظل الدين الجديد ، الذي تدعي انه المتطور ، وانك نشات اولادك عليه ؟
- اجل
- هل صحيح انك انبئت ، صباح 13 تشرين الاول – اكتوبر عام 1791 ، ان ابنك مارك – انطون ينوي تغيير دينه .
- كلا . لم ينبئني احد بذلك .
ويكمل بودريغ وكأنه لم يسمع الجواب :
- هل صحيح انك صممت ، منذ تلك اللحظة ، على خنقه بالاشتراك مع زوجتك وابنك الاخر وخادمتك وضيفك السيد لافايس ؟
وعلى الرغم من ان جان كالاس كان واثقاً من مصيره وان الحكم عليه يعتبر صادراً مسبقاً فقد اجاب بحزم وشجاعة نادرين :
- لم يكن ثمة اي تصميم من هذا النوع .
تجاه هذا الاصرار ، امر بودريغ الجلادين بالبدء . ويقضي هذا بشد الذراعين باتجاهين متعاكسين . وكان الشد يزداد كلما وجد المحقق ان الجواب ليس الجواب المرغوب او انه غير كاف . ويستأنف بودريغ الاسئلة :
- هل قمت بتنفيذ جريمتك وحدك ام بالتنسيق مع الاخرين ؟
- لا انا نفذت ولا الاخرون .
- اذكرك ياكالاس ان الحقيقة تخفف عنك الكثير من عذابك .
- أكرر ان ليس هناك جريمة وكلنا ابرياء .
واشتد العذاب واستمر التعذيب وكالاس لا يتزحزح عن موقفه . ولما كانت مراحل التعذيب قد استنفدت بكاملها دون نتيجة ، فقد امر بودريغ بحل وثاق المتهم . وهذا ما تفرضه القوانين في هذه المرحلة .
وسيق كالاس الى ساحة الكنيسة ، حيث المقصلة ، وسط جمهور غفير من الكاثوليك فقط . وكان طوال الطريق يتلقى الشتائم من الواقفين وممن هم في النوافذ دون ان يفقد هدوءه او يحني راسه . واخيراً وصل الى المنصة ، وقرىء على مسمعه نص الحكم ، فلم يتهيب ولم يرهبه منظر المقصلة ، واستمر في نفيه الجريمة . هنا تقدم الجلاد منه ، وبضربات من عصا حديدية كسر اطرافه اربعه . ثم ربطه بقوة ليختنق طوال ساعتين اثنتين .هذا اذا لم يمت ميتة طبيعية خلال هذه المدة .
اخر ما قاله كالاس ، وهو يحتضر ، كان امام الاب بورغ ، الذي جاء ليستمع للاعتراف الاخير قال :
- لقد قلت الحقيقة . هل تعتقد بأن من الممكن ان يقدم اب على قتل ابنه ؟ سأموت بريئاً . ولست اسفا على حياة ستليها سعادة ابدية . كم ارثي لحال زوجتي وابني وخادمتي . وكم ارثي خاصة لحال المسكين السيد لافايس ، الذي قاده سوء طالعه لهذا المأزق .
مرت الساعتان دون ان يموت المسكين . هنا تقدم بودريغ وطرح عليه السؤال نفسه ، فلم يجب ، عندها ، تقدم الجلاد واجهز عليه ورمى بجثته في النار وسط هرج جمهور جاء ينفص حقده عليه.
مات جان كلاس بعد ان انقذ بشجاعته الاخرين . ذلك انه لو انصاع لاهوال التعذيب واعترف بجريمة لم يقترفها ، لكان كل المتهمين ولكانت اللعنة حلت بهم .
لكن قصة البروتستنتي لم تنته فصولاً ، لقد كان بين الجمهور الذي شهد التعذيب والاعدام تاجر مرسيلي يدعى اوديبير ، هذا الرجل هاله ما راى وتيقن من ان في الامر- بالاضافة الى خطأ عدلي - جريمة شائنة حركها تعصب ذميم . كان على اوديبير هذا ان يسافر الى جنيف لاشغال خاصة ، لكنه قبل ان يصل اليها ، عرج على صديق له يسكن بلده فرناي ، بالقرب من الحدود السويسرية هذا الصديق هو فولتير .
استمع فولتير الى اودبير . وطرح اسئلة واثار استفسارات ، بعد ذلك كتب الى اصدقاء له يستعلمهم الخبر . اخيراً ، ارسل بطلب الابن الاصغر لجان كالاس ، والذي كان خارج تولوز عند وقوع الحادث لاخيه . وبعد ان انهى استقاصاءاته كلها ، خرج هذا الفيلسوف المتحرر بنتيجة راسخة وهي ان الامر يتجاوز كل الحدود ويصل الى الفضيحة .
والقى فولتير بكامل ثقله في المعركة . جمع حوله من كبار رجال القانون وتولوا جميعاً مراجعة ملف الدعوى ابتداء من القاء القبض على عائلة كالاس حتى اخر لحظة من حياة رب العائلة . وقد وجدوا مخالفات وتجاوزات لا تفسير لها . اللهم الا الاصرار على الادانة ، ولو جاءت هذه الادانة زوراً وبهتاناً . تساءلوا : لماذا اوقف الخمسة دون امر بالتوقيف حسب الاصول ؟ لماذا لم ينظم المحضر الاول في اليوم نفسه ، بل ارجى الى اليوم التالي ؟ لماذا اخيراً امر بودريغ باقامة مأتم كاثوليكي لمارك انطوان قبل ان تبت المحكمة بالدين الذي مات عليه ؟
واذا كان ظاهر الحال ان فولتير يخوض معركة قضائية قانونية ليحق الحق ويدين المرتكبين فان الواقع هو انه يرمي الى ابعد من ذلك . لقد اراد ان يجعل من قضية كالاس رمزاً . كتب الى كل من له اتصال بهم في اوروبا من ملوك وأمراء ووجهاء وعلماء . كتب اليهم يستصرخ ضمائرهم ويحثهم على اسماع اصواتهم حتى لا تتكرر مأساة ذلك البروتستنتي ويتلطخ جبين العدالة في فرنسا .وسمعت كلمة فولتير . وفي الرابع من شهر حزيران – بونيو من عام 1764 ، قبل تمييز الحكم . وفي التاسع من شهر اذار– مارس من عام 1765 ، اي بعد ثلاث سنوات بالتمام والكمال من أرسال جان كالاس الى المقصلة ، صدر الحكم من مجلس الملك برد اعتبار المسكين وبتبرئة جميع المحكومين الاخرين .
واكثر من ذلك ، فقد رأى الملك التعويض على السيده كالاس عما لقيه زوجها وابنها الثاني من تعذيب ، وعما لقيته هي من قهر وحرمان ، فأمر بمنحها تعويضاً مالياً بلغ ثلاثين الفاً من امواله الخاصة .
جرى كل هذا وقضاة البرلمان في تولوز مصرون على موقفهم من ادانة كالاس . لقد اعتبروا ان مجلس الملك لا يملك الصلاحية للنظر في قضية كهذه . لكن التناقض وذالك الظلم لم يكونا سوى مقدمة تمهيدية للقيام من الافق . بعد خمس وعشرين سنة على هذه القضية ، انفجرت الثورة الفرنسة وانفجرت معها احقاد متراكمة خلفتها ممارسات ظالمة من اعداء العدالة والحق هم صانعو الثورة الحقيقيون .