الدكتور/ محمود شعراني.
إنَّ الحديث عن اليات لحماية حقوق الانسان انما يشير بوضوح لوجود انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان في السودان وهذه الانتهاكات تعبر بدورها عن وجود ازمة ثقافية يعاني منها المجتمع السوداني .. ولهذه الازمة ابعادها النظرية كما لها اثارها السلبية في التطبيق .... اما البعد النظري فيقتضي تحديد مفهوم الثقافة وهل هو مفهوم توصيفي (descriptive) بمعني انه يقسم الثقافة الي مجموعات كالقول بان هذه ثقافة هندية وتلك ثقافة افريقية كما يفعل الكثيرون من علماء الانثروبولوجيا ـ ام ان الثقافة مفهوم ديناميكي له فعاليته التي تمكنه من احداث التغيير الامثل في البيئة البشرية متي ما توفرت شروط وعناصر الثقافة الفعالة من علم وعمل بمقتضي العلم واتقان للعمل مع توفر الدافع الاخلاقي للعمل وهذا يعني بالضرورة ملامسة الفكر لارض الواقع حتي يحدث التغيير ولذلك كان لابد من اقامة مثل هذه المنابر الحرة لاحداث التوعية الجماهيرية بالحقوق .
بسبب التغبيش علي الوعي الجماهيري يظن الكثيرون ان فكرة او ظاهرة حقوق الانسان هي فكرة او ظاهرة غربية وهذ ما تفعله الحكومات والانظمة القمعية في دول العالم الثالث ومنها السودان وذلك لاسكات الناشطين والمعارضين السياسيين ولدمغهم بتهمة العمالة للغرب .. هذا في الوقت الذي يري فيه المحايدون من علماء السياسة في الغرب ان ظاهرة حقوق الانسان ليست ظاهرة غربية وانما هي ظاهرة دينية حضت عليها كل الكتب السماوية والوثائق القديمة وكذلك فانها ليست وليدة التعاقد الاجتماعي بمعني ان السلطة السياسية هي التي تمنحها وفق ما يسمي بالعقد الاجتماعي ـ هذا علي فرض ان هناك عقد ـ فالسلطة هي التي تمنح وهي التي تمنع ـ هذا في الوقت الذي يعلم فيه كل صاحب بصيرة ان هذه الحقوق حقوق طبيعية ولدت مع الانسان وقد عبر عن هذا رجل يحتفي به الغربيون انفسهم وهو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حينما قال : ( متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا ؟ )
يكثر الحديث في السودان هذه الايام عن وضع اليات ومفوضيات واستراتيجيات قانونية لحماية حقوق الانسان عن طريق سن القوانين ـ ولكن كل هذا لن ينجح ما لم تتبعه اصلاحات في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك لان طبيعة الانتهاكات نفسها بنيوية وبدون اعادة البناء لن تكون هناك اليات فعالة لحماية حقوق الانسان .... اضف الي ذلك انه ليست هنالك ممارسة حرة للمهن القانونية في السودان وذلك عيب كبير .. اذ ان اخطر انواع الفساد الذي يضيع الحقوق هو الفساد الذي يضرب الاجهزة العدلية في الدولة وذلك لان العدل اساس الملك وهو اسم من اسماء الله وعدم اقامته تعني بالضرورة عدم التوقير للذات الالهية وساتلو عليكم هنا نماذج موثقة لامثلة من فساد الاجهزة العدلية :
1 ـ البلاغ الجنائي رقم 322 \ المدون ضد الرئيس السابق جعفرنميري عام 1999 لدي نيابة الخرطوم شمال والذي تم شطبه اثر صدور القرار الجمهوري رقم 141 بتاريخ 24 محرم 1420 هجرية وقد تضرر من ذلك مقدم هذه المحاضرة كما تضرر الكثيرون وكذلك تضرر من القضية الدستورية رقم( م د _ع د_7_ 1999 والتي جاءت كرد فعل لشطب البلاغ المذكور حيث ان القرار المذكور قد تم تعميمه علي كل المحاكم والنيابات حماية للمدعي عليه جعفر محمد نميري من اية مساءلة قانونية تمس الحقوق والمصالح العامة او الخاصة وهكذا تصبح النيابات الجنائية والمحكمة الدستورية ادوات لتحصين العمل الحكومي التنفيذي من رقابة القضاء فعن اي الية عدلية لحماية الحقوق يتحدثون ؟
2 ـ البلاغ رقم 3247 _ م 2010 لدي نيابة امدرمان وسط والمدون ضد المدعو الطيب مصطفي صاحب جريدة الانتباهة وخال رئيس الجمهورية والذي هدد الشاكي ووكيله ( المحاضر ) عبر بريده الالكتروني وهاتفه الجوال رقم
0912390933 فهل فعل ذلك لانه خال الرئيس ام لانه قيادي بما يسمي بالحركة الاسلامية ويظن نفسه فوق القانون ؟ ونحن نملك كل المستندات واسماء الشهود وعلي راسهم السيد ( بابكر احمد علي قشي ) المستشار ورئيس النيابة العامة بامدرمان والذي وصف اداء النيابة في هذا البلاغ بانه اداء سالب وكذلك يشهد علي هذا الاداء السالب وغير العادل الشاكي في البلاغ وههو الدكتور خليل الدليمي المحامي الخاص بالرئيس السابق صدام حسين والشاكي في البلاغ .اعلاه .
3 ـ البلاغ الجنائي رقم 187 _ م2009 والبلاغ 211 - 2011 لدي نيابة المهدية والثورات ونيابة حماية المستهلك والخاص بتعامل هيئة مياه الخرطوم الحكومية مع شركة وهمية تسمي ( العوسج ) ويعفها كل سكان محلية كرري وهي شركة وهمية بشهادة المسجل التجاري العام وقد وقه علي شهادة انها وهمية المستشار الطيب محمد عبد العزيز.
4 ـ الشكوي دع- م ن ح- 38 – 2007 – لدي نيابة الثراء الحرام ضد شركة زين للاتصالات لستعمالها الاساليب الفاسدة والثراء الحرام والتهرب من الضريبة بشهادة مصلحة الضرائب .
ثم تاتي الطامة الكبري حينما يتقدم مقدم هذه المحاضرة بشكوي لالية مكافحة الفساد السابقة التي كونها السيد رئيس الجمهورية بالقصر الجمهوري برئاسة دكتور الطيب ابو قناية وقال السيد رئيس الجمهورية وقتها وصرح عبر كل وسائط الاعلام ان لكل سوداني الحق في التقدم بالشكوي ضد الفساد وانتهاك الحقوق ضد اي تنفيذي او جهة حكومية وقال الرئيس ان علي الناس ان لا يتهموا احدا بالباطل بل يتقدموا بمستنداتهم وبيناتهم ... وباختصار غير مخل وعندما رفع مقدم هذه المحاضرة بشكواه للقصر وقدم ادلته ومستنداته عن الفساد في الاجهزة العدلية وغيرها وتم استلامها بمقر الالية في القصر الجمهوري ووقع علي الاستلام الدكتور الطيب ابو قناية وشهد علي ذلك الدكتور ادريس البنا نائب رئيس مجلس راس الدولة الاسبق والفريق عصمت بابكر مدير المكتب التنفيذي لرئيس الجمهورية الي جانب عدد من المحامين الديمقراطيين ومن هيئة محاي دارفور والدكتور نصري مرقص واخرين ـ وبعد كل هذا لم يتم التحقبق في الشكوي كما جري العرف القانوني وكل قانون مكتوب وغير مكتوب .. وكما يملي القرار الرئاسي .. ولكن الذي حدث هو انه قد تم اعتقال الشاكي !! وتقديمه للمحاكمة هذا بدلا عن شكره فهل سمع الناس بالشاكي الذي يحاكم فقط لانه تقدم بشكوي ؟!! فاين هي الالية التي تحمي حق المواطن في الشكوي؟؟ هذا المواطن الذي يمكن ان يستباح دمه وتهدر حريته وكرامته ـ تماما كما حدث للمحاضر في وقائع البلاغ رقم 172ـ 2013 بتاريخ 22 مايو عام 2013 ضد محلية كرري لاستغلالها لقوات الشرطة النظامية لارهاب المواطنين الذين يتجراون برفع الشكاوي ضدهم وقد تمت محاولة اختطاف قامت بها هيئة محلية كرري ضد الدكتور محمود شعراني بواسطة السيار ة الامجاد بيضاء اللون وتحمل الرقم المروري 29644 وقد تم ابلاغ رئاسة الشرطة التي ادانت فردا من افراد الشرطة بالمشاركة الجنائية في عملية الاختطاف .
ان المحاربة الحقيقية للفساد والحماية الفاعلة لحقوق الانسان انما تبدا بتنظيف الاجهزة العدلية لتصبح الية فاعلة تلتزم بالقانون وتتجرد له بدلا من ان تضع سيف السلطة علي رقاب المستضعفين دون ذوي الياقات البيضاء واصحاب الحصانات من المجرمين اذ كيف يحمي الحقوق من هو فاسد ومنتهك للحقوق؟؟
لعل ما ذكرناه من امثلة يؤكد ان الانتهاكات لحقوق الانسان في السودان ذات طبيعة بنيوية تستدعي الاصلاح البنيوي والاقتصاد والاجتماع .. ذلك ان الانتهاكات لحقوق الانسان قد تقع نتيجة سياسات او تدابير خاطئة وابرز مثال لما نقول هنا هو حق الصحة الذي تنتهكه السياسات الصحية التي لا تنظر للصحة كحق انساني وانما تري في الصحة خدمة (service) يمكن استثمارها لجمع الثروة للراسمالية المحلية المتوحشة وايضا لاغراض التمكين السياسي هذا علي الرغم من وجود العديد من الاعلانات الدولية التي تؤكد علي ان الصحة من الحقوق الاساسية للانسان ولكن وعلي العكس تماما فان السياسات الصحية في السودان تتعارض بصورة واضحة مع ما اقرته منظمة الصحة العالمية في اعلانها الصادر منذ عام 1970 والذي تناشد فيه كل الدول بان توظف كل مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية من اجل حماية صحة مواطنيها .. ولكن ولكن السياسات الحكومية الصحية في السودان تجعل من الصحة سلعة ومن الدواء تجارة.. وكل ذلك من اجل اغراض التمكين السياسي حيث انه ما من عاقل له ادني صلة بالتخطيط الصحي يقول بالتركيز علي الطب العلاجي وبناء المستشفيات ( خمس نجوم ) في بلد تكمن مشكلاته الصحية الاساسية في تفشي امراض البيئة (من واقع احصائيات الدخول للمستشفيات واسباب الوفيات) وعدم توفير الماء الصالح للشرب وانعدام الصرف الصحي ...الخ
فاين اجراءات اصحاح البيئة والتركيز علي الطب الوقائي وطب المجتمع واين التوعية الصحية والتمنيع والتحصين ؟ وكل هذه الاجراءات هي المطلوبة في ظروف السودان الصحية الحالية وهي الاجراءات التي تمثل الالية الفعالة لحماية الحقوق الصحية للمواطنين وقس علي ذلك بقية الحقوق الانسانية الاخري والتي تتطلب اصلاحا بنيويا لا مجرد سن القوانين وتكوين اليات فارغة من اي محتوي وليست بذات فعالية .